كثير من الشفقة
داعبت نسمات الليل الشقية فستانها الحريري.. ثم حلقت لتداعب خصلات من شعرها الاسود.. وطئت النسمات على كتاب كان بين يديها حاولت ان تغازل صفحاته..
وعندما امسكت ليلى بصفحاته انسحبت نسمات الليل بخجل..
كانت ليلى في العشرين من العمر.. قمحية اللون.. ليلية الشعر..
ـ خجولة الطرف كنسمات ليل شقية.. كانت رموشها تتعانق مع سحب السماء فتثير في النفس فزعا لجمال هاتين العينين الليليتين.
وقف عبد الرحمن على مسافة ليست ببعيدة عن ليلى وقد صرع لشدة الجمال الذي رآه.
سبقته خطاه الى ان وصل الى الفتاة الجالسة على الكرسي.
- ليلى اشتقت اليك كثيرا وهاقد عدت اليك اخيرا بعد ان اصبحت محاميا عظيما.
- صعق قلب ليلى ورقصت عيناها عندما امعنت النظر وعرفت من هو صاحب هذا الصوت..
- همست: طال غيابك عني انها خمس سنوات.. عدت متأخرا .. تأخرت كثيرا..
- قالت ليلى كلماتها وقد اختلطت ببكاء قطعته ضحكات.. لا تقولي لي انك نسيتني.. او تزوجت من غيري..
- لا يا حبيبي لم ولن انساك ثم لم ولن اتزوج غيرك.. تعالي.. تعالي نجمع هذه السماء بين كفينا.. نركب امواج البحر..
نهمس لكل حبة رمل عن حبنا.. نحكي لكل صدفة في البحر حكاية حبنا..
لنحطم المستحيل ثم نطير..
تعالي وردي لي الفرحة التي لطالما فارقتني وانت بعيدة عني.
- امسك عبد الرحمن يدي ليلى وسحبها بقوة وهو يضحك تعالي يا كسولة.
وفجأة توقفت عيناه عندما شد انتباهه الكرسي الذي كانت ليلى قد جلست عليه.
زاد من قوة سحبه لها وعندما ادرك بأن كل قوة على الارض البشرية.. لن تتمكن من تحريك قدمي ليلى توقف عن الشد.
- ثم قال من غير ان يدرك ماذا يقول:
ليلى قولي لي ماذا حدث لك.
- تأخرت كثيرا.. تأخرت كثيرا..
- مضت عليهما بعد ذلك بضع دقائق.. مرت بصمت مخيف كصمت الموت البارد..
- قطع الصمت الطويل صوت بكاء ليلى..
- سامحني.. لم استطع ان احافظ على عهدنا.. لن استطيع ان اركض خلفك من جديد..
- سيطر الصمت من جديد.. ولم يقطع الصمت الا من قبل اصوات اقدام عبد الرحمن وهي تدق رمال الشاطىء راحلة.
- عندها التفت عبد الرحمن وقد امتلأت عيناه بالكثير من الشفقة.
قال : اتمنى لك الصحة الدائمة يا ليلى وبسرعة رحل..
- نظرت ليلى الى الكتاب لا يزال بين يديها.. كتبت عليه بضع كلمات..
لم تدرك ليلى ان سواد الليل كان قد غزا زرقة السماء وكسا امواج البحو بثوب الحداد نظرت من جديد الى الكتاب لا يزال بين يديها.
شعرت بقوة هائلة تتملكها..
رمت بالكتاب على الرمال.. استغلت قوة يديها وأعلى جسدها لتحط بجسدها علي الرمال بجانب عجلات الكرسي..
وأخذت تزحف وتزحف تاركة رمال البحر مجروحة خلفها. زادت قوتها عندما لامست يداها مياه البحر الباردة واخذت تزحف وتزحف وتزحف.
تزحف فتحتضنها امواج البحر المنسية.. ثم تزحف .. وتزحف.. بعد دقيقة واحدة.. لملمت الامواج جروح رمال البحر التي كانت ليلى قد تركتها خلفها فكانت ليلى قصيدة منسية.
احتار بعض المارة في صباح اليوم التالي.
ترى من نسي على الشاطىء كرسيا بعجلات.. وكتابا كتب عليه كثير من الشفقة..
شيرين الرفاعي مديرة العلاقات العامة لمركز الفا
*******
تـرنيـمــــة
بلذة الحنين العبق.. وبروح جمالك.. احمل اشتاتي وردا.. وأنسجه اهداء صامتا..
لأقدمه اليك لحنا بصداك مترنما .. فقط امنحيه القبول.. قريتي المحبوبة «الخوبة» - بجازان - «دُجَيْرة اخرى»..
وحدي اصارع الشمس.. ابحث عما يظلل جسدي الكهل من اديمها الساخن..
تحت ظل «اشواك السلم» المتناثر، اتكاءتي المنحنية تؤكد خلو ظهري المنهك من البقشة المدعى بعبئها الذي اعياني واهابهم.
اشتق طريقا لعيني «غير المفقوءة» كي ترمق كل من يلتصق بجدار منزله ليتخلصني وينجو من فورتها الحارقة - كما ظنوا - فتمرضهم وربما قد ترديهم كالجثمان في القبور «لا قَدَّر الله».
انبثقت من بين فكي قهقهة هزيلة على اثرها اهتز رأسي المتدني بذاكرته الواهنة «القادرة» على رواية ما احدثته بصغري: قربتي التي اقتضبتها بين يدي اطرفت عيني ببطنها الممتلىء فوقعت و«فُقعت»، لم ابسمل فهذا خطئي، والدتي «العجوز العائنة» لا يهمني تهكم والدتي الا ان سخرية فتيات قريتي تغلبني.
كان احب ما لديهن التقاط العيوب والحفاظ عليها اكثر حالما اخالفهن الرأي او اعبث بلعبهن.. ذاك الزمان ألالكني فلفظني شمطاء كما لا احب.
جاري الشيخ «الدعث» يطالعني بمنأى عني، نفسي تدنئه.. ها هو يعاود طريقه موليا اتجاه منزله، احسسته ينزوي ليقترب ليس كعادته، يقتربني فهو يروعني كخياله.
ملاعبة عينيه لجسدي توحي بأن قولا بلسانه كان اشبه به.. على صخرة هرمة بجواره ارتطم وكأنه يشاء ان يرتكز على قمتها المحدبة..
حتما سيؤول للسقوط ان استمر واقفا.. غمضاتي المتلاشية حوله، حسبته سيقضي وقتا ليس بطويل ويمضي مسايرا صمته كما اعتاد..
بزفرة شديدة ارفقها بسخرية عاتية.. أحقاً تدعين بذي العجوز العائنة؟!
اظنها الاجدر عليك - كركرة تهكمية اعقبت قوله - لا تغضبي فقط أمزح.
تشرب وهي بحرارة الغيظ سكت ألفا ونطلق خلفا احسن حل لي اتشاغل بما يشغلني عنه.
بسواكي المقضوم بين اسناني اتتبع مسير النمل الملتصق بساقي، ارتعاشة شيخوختي لا ترعبه، خلتني اعقد شراكا معه ليقتصني من ذاك المعيب الشائب ويقرص ما بقي من جلده المتجاعد.
بصوته الغليظ بعثر انشغالي ليأني لصمته الدهري ان يعصف ويحكي ما ألجمه بنفسه: ريمية شبابها تلك الفتاة الخالدة بذاكرتي عيناها كالغابتين المرتويتين لا تنقضي من امامي الى حيني ذا.
تزوجت.. زوجتي لا تشابهها سوى تعلقها بي.
هي قالت قبل وفاتها: أبواك لا يرفضان لك طلبا.
تلعثمي يحيرها دوما فتغضب!!
أتوارى عنها.. واصرخ صمتا فتأتي الريمية لا ترى وجودا لمن يستحقها احسستني ابشع عندما اروي مدى غرورها.
صمت الشيخ متأوهاً فواصل حديثه بنبرة متعرجة قيل لي إنها قبل عامين في الستين من عمرها قد قصدتها شوكة السلم لتخز آخر غير يديها ففقأت احدى عينيها المرتوية لتظل بعين واحدة. اربكني هذا الخبر لكنها لم تعد تعنيني ولا تؤثر فيَّ كسابق الا انه في وقتي الراهن يضحكني ما تسطره ألسنة اهالي الحي عنها.
آكلة البشر تنهش لحم الاطفال ما دون الثانية عشرة ان لقفتهم بعد دنو الليل.. اما عن الكبار فهي المرأة الحسناء ان اقترب منها امتصته فهو كالجثة الهامدة..
ربما أنها الآن تتحسر غيظا على ما احدثته شوكة السلم بعينها.. عبثاً اصبح يجدد في كل يوم ما يعيبها ويضاف لها ما ينقصها.
آخر ما حظيت بسماعه اذني ما تدسه وسط كمها ربما تحمل يداً مجذومة!!
«ما زلت أتقصى خبر جذمها»!
اقتطعت حديث الشيخ السمج لربما بلاء عم بعقله فخرف ما بقي منه.. سأطلق العنان لعل ساقي يقضي عليه عله لن ينهض بعدها.. وانتشل من امامه شرط الا يشعر «ولو بتهشم سواكي» كي لا يحكي عيباً آخر عن «دجيرة أخرى» لا تشابهني فترهبني!!
فاطمة السلامي
|