Thursday 23rd May,200210829العددالخميس 11 ,ربيع الاول 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

نرجسية الثقافة: محاورات التفاضل بين الأمم 3/4 نرجسية الثقافة: محاورات التفاضل بين الأمم 3/4

تقوم أفضلية العرب على غيرهم من الأمم، في إطار محاورات القدامى، أكثر ما تقوم على الصفة الشفاهية لثقافتهم، حيث أخذت اللغة، من حيث هي نطق وبيان، مساحة من فخار المفتخرين ونضال المدافعين. وقد تبدو هذه المسألة حادثة في شعور العرب تجاه ذاتهم، الثقافية، ومستجدة في سياق وعيهم، بغيرهم، أي أنها من جملة الأدوات والمعاني التي ولّدها منطق التنازع نفسه، فكانت ناره المشتعلة من جهة، ووقودة الجزل، في ذات الوقت، من جهة أخرى. وهذا غير صحيح من غير شك، لأن منزلة الآخر وموقعه من الذات العربية تنبني، من خلال التسمية العربية، على تمييز لساني وبياني، عبر ثنائية: العرب/ العجم. وهي ثنائية ضدية تثبت اللغة للعرب وتنفيها عن غيرهم، ومن ثم تدور في دلالة الجذر«عرب» معاني: الفصاحة والبيان والتبيين، في حين تدور في دلالة الجذر« عجم» معاني الإبهام واللكنة والتورية والتكنية والمواربة والخرس، وعدم الإبانة، ويفرد لفظ «العرب» الأمة، بوصفها جنساً، عن غيرها من الأجناس، في حين يجمع لفظ«العجم» الأمم خلاف العرب.
تمييز الذات العربية إذن لذاتها من غيرها، عبر الصفة الشفاهية للغة، ليس حادثاً في شعور هذه الذات، وليس مستجداً في سياق وعيها بالآخر/ الآخرين، بل هو قديم قدم المعنى الذي تغدو إشارة لفظ«العرب» إليه، في المعجم العربي، قرينة إشارة المقابل وهو« العجم» إلى كل من عداهم. هنا يمكن القول إن العرب، من حيث امتياز خاص وخصوص متميز، إنما يختبئ في اللغة، فتغدو اللغة ميزتهم ويغدون بالتالي امتياز اللغة وفضلها وخصوصيتها. وهو فضل يكتسب به العربي قيمة إثنية يتنزل الآخرون منها منزلة الهامش من المتن، والحافة من المركز، والسطح من العمق، فيصبحون، في داخل البنية الثقافية الاجتماعية للعصرين الأموي والعباسي، موالي.
هؤلاء الموالي، في إطار محاورات التفاضل، يغدون متكأ لوصف وسرد يخلط أغراضه اللاهية بمضامينة المأساوية، وشكله الساخر والمتفكه بعمقه التبكيتي، ومراميه الإقصائية والنبذية، ولنستعرض، في هذا الصدد، بعض ما يسوقه ابن عبد ربه حيث يقول:«قدّم نافع بن جبير بن مطعم رجلاً من أهل الموالي يصلي به، فقالوا: له في ذلك، فقال: إنما أردت أن أتواضع لله بالصلاة خلفه» ويمضي ابن عبدربه، فيقول:«كانوا يقولون لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة: حمار، أو كلب، أو مولى، وكانوا لا يكنونهم بالكنى، ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب، ولا يمشون في الصف معهم، ولا يتقدمونهم في الموكب، وإن حضروا طعاماً قاموا على رؤوسهم، وإن أطعموا المولى لسنّه وفضله وعلمه أجلسوه في طرف الخِوان، لئلا يخفى على الناظر أنه ليس من العرب، ولا يدَعونهم يصلون على الجنائز إذا حضر أحد من العرب، وإن كان الذي يحضر غريراً، وكان الخاطب لا يخطب المرأة منهم إلى أبيها ولا إلى أخيها، وإنما يخطبها إلى مواليها».
اللغة، هنا، لم تعد لساناً فقط، بحيث يمكن أن يمحي الفرق فيه بين العربي، وغيره، خاصة وقد أصبح، من هؤلاء الموالي، أساطين ورواداً في علوم اللغة وفي علوم الدين، لقد انتقلت من اللسان إلى الدم، ومن الإنسان إلى الثقافة، لتمتلك دلالة تجنيسية وتصنيفية تفضي إلى تراتب ثقافي إجتماعي على أساس إثني لم يسلم الدين معه من أن يُستغَل لغايات إقصائية وقمعية بين أبناء ذات الملة. عجمية اللسان والجنس في وصف غير العرب استحالت كما يشير النص إلى عجمية ثقافية واجتماعية تنطق لغة الجسد الاجتماعي والثقافي بها في شكل إقصاء ونبذ وتأخير.. وناتج ذلك وعلته في وقت واحد محاولة التسييج والتأطير لهذا الجسد الثقافي والاجتماعي وإغلاق دائرته المكانية واحتكارها، في نوعٍ من الضدية للزمن والتدجين للتأريخ وقولبته ثقافياً.
هذا التسييج للجسد الثقافي الاجتماعي، من حيث هو لغة ناطقة بموقف الذات تجاه الآخر، هو ما يخلق المغايرة ويؤكدها ويلح على تعميق الوعي بها عبر صبغها قيمياً، فتكبر دائرة الاختلاف عن الآخر وتصغر إن لم تنعدم دائرة التشابه، ويتسع الوعي بالأنا وتضيق مساحة الوعي بالآخر، وتتضخم الذات ويضمر غيرها. وهنا لا تغدو الفجوة كبيرة فقط بين الذات والآخر، بل تغدو كبيرة أيضاً بين الصورة الذهنية والحدث الواقعي، بين العقل الذي يصنعه الوهم والتأريخ الذي يخلقه احتكاك البشر وتفاعلهم، بين الطفولة المتمركزة على الذات والرشد المتطلع إلى آفاق لا يمكنه احتكارها وحيداً. وتكون النتيجة التعالي على الآخر أو الخوف منه، اضطهاده أو الخضوع له. هكذا تخفق الذات في احتواء مركب الآخر الذي يفتحها على الواقع ويتجاوز بها درجة الإطلاق والعقم إلى حيث تعي فاعلية التشارك والتلاقح والإخصاب المتبادل.
وعندما تغدو مغايرة العرب، إثنيّاً، لغيرهم فضلاً يفضلون به سواهم، وزيادة ينقص بها غيرهم، عبر ثقافة تنظر بعين واحدة وترى جانباً وحيداً، وتستبدل الاستبداد بالحوار، والدوغمائية بالتساؤل، والماضي بالحاضر والآتي فإن مستلزمات العرب وخواص ثقافتهم تمتلك من ذات المنظور قيمة وحيدة ، مستبدة، دوغمائية، وماضوية. هنا تستحيل مثالب الجماعة إلى فضائل، وتغدو المشافهة لا الكتابة، والارتجال لا التفكير، والشعر لا النثر، والبداوة لا الحضارة، والخيام لا القصور، والجفاء والغلظة وخشونة العيش لا الرقة واللين والرغد.. يغدو كل ذلك، لا أضداده، قيمة فضل، وميزان تفوق، وامتياز جدارة.
وعلى هذا الأساس ناضل المناضلون عن فضل العرب، وعليه، أيضاً، هاجم العائبون والمنتقصون لفضل العرب، وبين هؤلاء وأولئك كان الجسد الاجتماعي والثقافي، بوصفه لغة ذات دلالة على الوعي، مادة للتأويل والقراءة عند العرب وعند العجم، وبين الذات والآخر، ومن منظور الرضا والسخط. ونجد في مدوّنة التفاضل، التي حفظتها كتب تراثنا، جوانب ثرية بدوال ودلالات قراءة سيميولوجية ثقافية واجتماعية، اتخذت نصها ومادتها من الكلام وأساليبه ومن الأزياء والملابس والعادات وطرق المعيشة وصفات المجتمع والعلامات المبثوثة في أحواله المختلفة: سلماً وحرباً، نطقاً وصمتاً، قياماً وقعوداً، حضوراً وغياباً. وما يأتيه أفراده من إشارات وحركات.. الخ.
وربما كان الجاحظ أوضح وأقوى من عني بتدوين هذه القراءة، حيث ينقل عمن يعيب العرب وينتقصهم «مطاعنهم على خطباء العرب بأخذ المخصرة عند مناقلة الكلام ومساجلة الخصوم بالموزون والمقفى، والمنثور الذي لم يقف، وبالأرجاز عند المتح، وعند مجاثاة الخصم، وساعة المشاولة، وفي نفس المجادلة والمحاورة. وكذلك الأسجاع عند المنافرة والمفاخرة، واستعمال المنثور في خُطَب الحَمالة، وفي مقامات الصلح وسل السخيمة«كما ينقل أيضاً عيبهم في العرب» الإشارة بالعصي، والاتكاء على أطراف القسي، وخد وجه الأرض بها، واعتمادها عليها إذا«مضت» في كلامها... ولزومهم العمائم في أيام الجموع، وأخذ المخاصر في كل حال، وجلوسها في خطب النكاح، وقيامها في خطب الصلح وكل ما دخل في باب الحمالة.. وخطبهم على رواحلهم في المواسم العظام، والمجامع الكبار، والتماسح بالأكف، والتحالف على النار، والتعاقد على الملح».
هذه الإشارات والأزياء والأوضاع والحركات والأحوال والأساليب يتم إحصاؤها، بوصفها علامات دلالة، من أجل الإبانة عن صفة الثقافة العربية الشفهية البدوية وما تتسم به من سطحية وتقاليد. والنص يوالي تلك العلامات الرمزية على نحو من الكثافة والاحتشاد الذي يوحي بالمحاصرة للرؤية، والاسترقاق للعقل، وإثقال الوعي بوطأة الجماعة واستدارتها في الزمان. ورغم أن الجاحظ يكسر، ببراعة، طوق الدلالة التي ترسمها تلك العلامات رسماً يغلقها على العرب ويغلق العرب عليها، فيذهب إلى أن« بالناس أعظم الحاجة إلى أن يكون لكل جنس منهم سيما ولكل صنف منهم حيلة وسمة يتعارفون بها» ويذكر من شواهد ذلك ملابس الرهبان، وسيما العمة والمخصرة عند العرب، وسيما أهل الحرم، وزي الحرائر والإماء والكاهن والعراف والشعراء والقضاة والكتاب والشُّرَط، وأن القناع من سيما الرؤساء، وحاجة أصحاب السلطان إلى الدلالة على الفخامة والنبل، ولذلك وضعت ملوك العجم على رؤوسها التيجان، وجلست على الأسرة وظاهرت بين الفرش. رغم ذلك فإن الدلالات الكامنة في الجسد الثقافي الاجتماعي تبقى ذات خصوصية دلالية مغلقة على الجسد ومختلفة عن الدلالة التي يقرؤه بها الآخر أو يعلن بها الجسد عن ذاته للآخرين.
من هنا نفهم، معرفياً، معنى الإطلاق والنسبية في فضل أمة أو ثقافة على غيرها، فكل فضل، من هذا القبيل، لا معنى له إن لم يقيد بذات متعينة في مجتمع وثقافة، هكذا يغدو إطلاق الفضل قرين الكذب، وهكذا تنسج كل ثقافة علاقة نرجسية في معرفة أبنائها بغير جسدها لتشحذ دوماً، لذاتها وأبنائها، دعوى التفوق، في جهتها، ودعوى النقص في الجهة الأخرى.

د. صالح زيّاد

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved