«1»
يحدثك «العجوز» على شاطئ البحر أمام مراكب خشبية قديمة عن ذكرياته مع «عروس البحر» قبل نصف قرن. كان شقياً في طفولته ولكن «جدة» كانت هادئة خلف أسوارها لدرجة تجعل من حوار المدينة مع ساكنيها حوارا حالما أشبه بألف ليلة وليلة. تلك البيوت العتيقة برواشينها الخشبية البهية والتي تشرع أرجاءها لعناق نسيم البحر ومتابعة جلبة المتسوقين في أزقتها الضيقة وحوانيتها التي تنبعث منها رائحة البهارات الهندية والقهوة العربية واللبان اليماني.
كان للعجوز يومها فتاة أحلام تتابعه من خلف الرواشين. كان يرى ظلها عندما تلقي الشمس تحيتها على المدينة. ولكنه كان مشغولا بصيد السمك لأيام في عرض البحر عندما تقدم لخطبتها رجل آخر ووافق والداها عليه. يومها يقول العجوز: كانت أزقة جدة تضيق على خطوتي، تحولت لسجن، لم أعد أرى السماء من بين قامات البيوت، ورأسي يرتطم بجدار السور كلما خرجت أو دخلت منه، شعرت أن للبحر يدين من حديد تخنقانني كلما اقتربت منه. رائحة اليود المنبعثة من أمواجه تصيبني بالدوار، يومها قررت الرحيل، ولكن الرحيل استقر بي في العروس ثانية مثل حجر يقذف به للسماء تعيده الجاذبية للأرض. لم أكن طيرا يا ولدي.. كنت حجرا. تنهد بعمق ثم واصل: أتمنى لو أنني ما زلت حجرا على أن أشم رائحة المجاري على شاطئ البحر وأرى البحارة يعودون خالي الوفاض إلا من نزر قليل من السمك، وتخنقني عوادم السيارات في الشوارع، هل تصدق أن معظم الطيور المهاجرة قد خاصمت هذا الشاطئ مثلما خاصمته مظاهر الحياة الأخرى!!.
«2»
سألت الصيدلاني: إن كان لديه حبوب مكافحة الملاريا؟ كان آسيوياً، تأكدت من ذلك وهو يسحب علبة الدواء من رف بعيد وهو يسألني: «أنت في سفر أفريقيا»؟ فقلت: «لا أنا في سفر تهامة». سألني بذات الطريقة ان كانت تهامة هذه في أدغال أفريقيا أم في شرق آسيا أم جزيرة نائية في عرض المحيط! قلت ببرود إنها جنوب جدة، هي الأرض الساحلية التي تفصل البحر الأحمر عن جبال السروات والحجاز. اتسعت عيناه وهو يقول بذات الطريقة - أيضاً - وهل هناك ملاريا؟! قلت ببرود أشد: نعم هكذا تقول التقارير العلمية، أم تريدني أكذبها وأصدق رجلا لا يعرف موقع تهامة الجغرافي!!.
حملت أوراقي ومعداتي الحقلية واصطحبت رفقاء الرحلة ميمما وجهي شطر تهامة، كانت مدينة الباحة محطتي الأولى قبل أن تأخذني عقبتها المدهشة من قمة «السروات» إلى البحر. كان جبل شدا الأعلى والأسفل شاخصا أمامي مثل ماردٍ يضع أقدامه في تهامة ورأسه يطاول السروات. صخوره العالية الملساء أشبه بعلم تشد أنظار الهابطين من العقبة. في نهاية الطريق كانت قرية ذي عين ناعسة في هدوء سرمدي على تلة يسار الطريق، كانت أشبه بعجوز وقور تكالب عليه الزمن وعقوق الأبناء رمقتها بنظرة عجلى، شعرت بغصة وأنا أشاهد بعض بيوتها الحجرية وقد تداعت. لم يكن لغابة أشجار الموز والنخيل في السفح الممتد أمامها لأن يمنع نظري من ملاحظة ذلك، لقد ترددت عليها كثيرا منذ أكثر من عقد من الزمان حتى صارت بيني وبينها ألفة.
«4»
قطعت وادي ناوان متجهاً من خلاله للبحر، إنه أحد معالم «أسطورة» السروات الغربية، يمتد كشريان حياة من سفوح جبال شدا شمال مدينة المخواة متعرجاً على امتداد سبعين كيلو متراً وعبر جنوب مدينة المظيلف ينيخ ركابه في البحر. كانت مزارع الذرة والسمسم تملأ طرفي الوادي. توقفت قبل تهامة لأنظر خلفي صوب الشرق وتحديدا ناحية الباحة. تساءلت في نفسي لماذا لا تشرب هذه المدينة الجبلية الرائعة من ماء البحر، كغيرها من المدن الساحلية والجبلية؟!!. توقفت في مقهى مهمل على جانب الطريق لأسكت جوعي بوجبة طيبة من سمك الهامور. كنت أضحك رغم هَمِّي على الطريقة التي يأكل فيها مرافقي من اليابانيين الأرز والسمك مثل أطفال عنيدين يصرون على ألا يسقط الأرز من أيديهم أثناء الأكل ورغم تلك المحاولات الجادة تركوا السفرة ملأى بالأرز المتساقط.
«5»
بدأ الطريق يأخذ جانب البحر، كانت تجمعات أشجار الاراك التي تشبه أكواما دائمة الخضرة «علامة فارقة على سواحل تهامة» سَرَت رعدة في جسدي وأنا أشهد زرقة البحر تستعيد نقاءها من جديد وتمتزج بشريط ساحلي داكن الخضرة من أشجار القندل والشورى. تلك الأشجار العجيبة التي تشرب من ماء البحر وتمتد جذورها في الهواء للتنفس من نسيمه العليل. إنها مصدر مهم لتكاثر الأسماك والربيان ومكان آمن لتعشيش الطيور، وفي بعض الأماكن لاختباء الغزلان إنها فصل طويل من حوار البر والبحر.
كانت جمال سائبة، ترعى الأشجار الساحلية وحيازات مسورة على امتداد الطريق ليس فيها إشارة لشيء باستثناء شهوة الامتلاك. تذكرت قرارا حكيما أصدره صاحب السمو الملكي «ولي العهد» حول حظر البناء على الشواطئ في المملكة لمسافة 400 متر وتساءلت في نفسي ثانية هل يسمع هؤلاء الناس القرارات أم يحتاجون وقتا لتنفيذها؟!!.
«6»
كان منظر القرى المتناثرة على أطراف الساحل التهامي والمدن الصغيرة التي نشأت كيفما اتفق تصيبني بالحسرة، ألم نتعلم من درس «العروس» بعد. منظر النفايات من كراتين وأكياس بلاستيكية وعلب فارغة حول القرى ومحطات توزيع الوقود والبقالات يضايقني أكثر من ارتفاع حرارة الساحل ورطوبته. يا الله، كم من الوقت تحتاج لتصبح فيه هذه القرى والمدن أكثر جاذبية لساكنيها. قبل أن نتحدث عن تدفق سكان الريف على المدن واكتظاظها الخانق. كان الطريق رغم مساوئه وسوء قيادة بعض مرتاديه يجعلني دائم اليقظة. تذكرت قطعان الجمال التي تقطع الطريق وتقف في وسطه ببلاهة تغيظ عندما تداهمها منبهات السيارات. كنت في كل مرة أقف لإبعادها عن الطريق، يتحول ضوء الشمس الحارقة في عيني لظلام عندما أتذكر أن ربع حوادث الطرق في المناطق النائية لدينا أبطالها هذه «البعارين» المسكينة الجانية المجني عليها. تذكرت صديقي «عبدالله باهيثم» حين كتب مقالا في زاويته الأسبوعية عن هذه المشكلة عنوانه «لا أصدق». طرح حل مصادرتها ان وجدت على الطرق، سمعت هذا الحل من عشرات قبله ولكنه كتبه بطريقة مؤثرة. تحرك الأحاسيس الراكدة خلف مكاتبها الأنيقة. مازالت دبابيس الأسئة توخز الخافق في صدري: متى تحل مشاكلنا العالقة.
تجاوزتني دورية عاجلة كانت فيما يبدو من أضوائها المشتعلة وأصواتها التي تقطع سكون الساحل في مهمة لا تحتمل التأجيل. توقعت حادثا في الطريق، وقليلاً ما تخيب توقعاتي في هذا الثعبان الأسود الممتد على طول الساحل والذي يسميه البعض تجاوزا «مجزرة الجنوب» و«مقبرة الجنوب» فقط كنت أدعو أن يكون حادثا بسيطا وليس فيه وفيات أوجروح معيقة!!. بعد بضعة كيلو مترات تأكدت أن توقعاتي لا تخيب أبداً في هذا «الصل» الأسود. ألم أقل أن لدغته مميتة، كانت حافلة صغيرة تحمل عشرات من الطالبات مصطدمة مع سيارة «لكزس». يا الله! كيف لم يروا بعضهم بعد الظهيرة. لم استطع أن أوقف النحيب في داخلي وأنا أشاهد كتب التلميذات متناثرة على جوانب الطريق وبعض المسافع عالقة بالزجاج المحطم وبقع الدم على الاسفلت، يا الله كان «نول» وحيداً يصرخ بصمت داخل السيارة على أنامل تلك التي نسجت عليه أفراحها وتطلعها للمستقبل، ماذا تقول المسامير في ذلك «النول» لخيوط الصوف الملتف والذي قد يلتف على أعناقها؟!. ان خيوطا أخرى تلتف في هذه الساعة على أعناق التلميذات المنكوبات، دعوت الله بحرقة ألا يكون بينهن ميتة أو معاقة أو مصابة بجروح تترك ندوبها مع الزمن. لقد فقدت في هذا الوحش الممتد على طول البلاد وعرضها أعز ما أملك، فقدت فيه أبي وأخي وأعز الأصدقاء. رحلوا ولكن ذكراهم لا زالت محفورة في قلبي. بالله عليكم هل يعرف أحد منكم عائلة - على طول البلاد وعرضها لم يصب أحد منها في حادث سير! بالله دلوني عليهم لأدعو لهم بطول السلامة. أي حرب خفية نعيشها في الطرق. ان لدينا قوائم طويلة من القتلى والمعاقين تفوق ما لدى دول المواجهة العربية مع العدو الصهيوني. تصدمني تلك اللوحات على جوانب الطريق المحذرة من السرعة ومن أنه مراقب بالرادار، وقد رصدت العشرات من السيارات تتجاوزني بجنون. ولكن أحداً هنا لا يراقب أحداً في هذا الخبت. تذكرت جبل الوعود بازدواج الطريق الساحلي منذ عقود الرفاه ولا أدري لماذا تذكرت دراسة ال 5% من قرارات جامعة الدول العربية التي يتم تطبيقها من القرارات المتخذة وهي بالمناسبة القرارات غير المهمة. كانت الهموم الصغيرة تزدحم برأسي مع الهموم الكبيرة بينما كان صوت «طلال مداح» يصدح في المقصورة بأغنية «وطني الحبيب» لم أكد أصل بغيتي بعد. كنت قد تجاوزت القنفذة والقوز والبرك والقحمة ولكن ثلاثة حوادث مميتة شاهدتها ذات اليوم في الطريق لم تتجاوز ذاكرتي بعد، وقول لتهامي عجوز كان يتفحص حافلة التلميذات المنكوبة وهو يردد بدهشة: «الله المسلِّم..» وحوقل بصوت مؤثر لا أذكر كم مرة ولكن صداها لا زال يتردد في داخلي مع ذكرى الذين فقدتهم.
«7»
أخيراً وصلت إلى «الحريضة» وما أدراك ما الحريضة. كان فندقها الجميل بواجهته البحرية أشبه بواحة في صحراء. لم أر ما حولها إلا صبيحة اليوم التالي إذ كنت قبل أن أصل أتابع تداعي الشمس التدريجي في حضن البحر. إن قصة العشق الأبدي هذه تتكرر كل يوم، ولكن في تهامة لهذا العشق سحر خاص لأنه أشبه «بأوبرا» مكتملة العناصر. زرقة البحر وهدوئه وحمرة الشمس وسحرها وشواطئ من زمرد تختلط فيها أشجار القندل والشورى الساحلية بغابات نخيل الدوم البري وبعض نخيل الصفري وطلح وصبار مع خلفية سمفونية من أصوات طيور الساحل وبعض الطيور المهاجرة. نمت قريرا على هذا المشهد الذي غسل أشجاني، في الفجر كان طريقي لموقع العمل في وادٍ قريب من الفندق، كانت خيوط شمس الصباح الحريرية تداعب وجهي وهي تطل على استحياء من خلف جبال السروات.
ولكن تمنُّعها لا يطول إذ سرعان ما تسفر عن وجهها المشرق. وكان عليَّ أن أعيش بكل أحاسيس روعة هذه الصباحات حين التقيت العم «محمد الصبيحي» كان يجرجر ماعزاً أبيض نافقاً من قرية مسترخية على ضفة الوادي، وقفت لأسأله: ما حَلَّ بالماعز؟! قال: لا أدري ربما قتلها «الحَنب» أظنه يقصد الشعير ثم سألته إن كان من طبيب بيطري يمر على القرية ليفحص الأغنام والأبقار والجمال. أشرقت ضحكته في هذا الصباح الجميل: «الله يجازيك يا وليدي» إننا نأخذ الأوادم 15 كلم لأقرب مستوصف، هل تريد أن يأتي طبيب للبهم. أدركت وقتها كم كان سؤالي ساذجا، ولكن هذه البهم هي مصدر رزقه الوحيد ومزرعة صغيرة للذرة والسمسم وبعض نخيل الصفري في عرض الوادي بين غابات الدوم. بعد العصر جاء العم محمد لأعلى الوادي مع أربعة من أبنائه وبناته الصغار ليسبحوا في مجرى الوادي الذي سد في أعلاه بجسر ركامي لا يبعد عن البحر شرقا سوى قرابة خمسة كيلو مترات. تمنيت حين شاهدتهم يسبحون ألا يكون في الماء بلهارسيا، لم أشأ أن أنغص عليهم سعادتهم لمجرد شكوك، جاء ليتحدث معي العم محمد بعد أن ارتدى ازاره التهامي ووضع على رأسه قبعة من سعف الدوم. سألته إن كان سعيداً في حياته في الوادي، قال: الحمد لله، ثم دعا للدولة بكل خير، قال: إنهم يدفعون ستمائة ريال لكل طالب لتشجيعهم على الانتظام في الدراسة وقد زادوهم هذه السنة ل 900 ريال هكذا قال تذكرت الضائقة المالية التي تمر بها البلاد ولكنه شيء يدعو للفرح ان نشاهد هؤلاء البسطاء يحصلون على دعم أكبر. إن لديه أبناء يدرسون في كليات جامعية في أبها. قال ذلك بفخر. كان عليَّ أن أرحل لأبها في زيارة خاطفة أعود بعدها للساحل عبر عقبة «ضلع». وكنت أمنِّي نفسي باستنشاق هواء قمم جبال السروات المشبع برائحة العرعر والضرم، كانت جسور العقبة في نهايتها قد طرحها السيل على جانب الوادي في مشهد يدعو لاحترام الطبيعة أكثر ما تحفزك التقنية على تجاهلها، اذكر هذا المنظر منذ السبعينيات، مررت من هذه العقبة عندما كنت احتل المقعد الخلفي طفلاً من السيارة، وكانت على هذه الحال، تمنيت ألا يمضي زمن أرجع فيه للمقعد الخلفي كهلاً قبل أن يعاد بناؤها، انهم قد بدأوا بالفعل في ذلك بعد أكثر من عقدين من الكارثة. المهم ألا ينتهوا بعد عقدين آخرين من البداية!!
حين عدت للحريضة وهي من شواطئ تهامة التابعة لمنطقة عسير كانت لمسات مهندس التنمية فيها لا تحتاج إلى ترجمات. فندق جميل وقرية ناشئة من ثمانمائة «فيلا» والخدمات تم تأمينها قبل إنشاء القرية. أليس هكذا يكون التخطيط؟! كل الذين قابلتهم من أهالي المنطقة يقولون بفخر إنهم يتبعون «لخالد الفيصل» كانوا يقولونها بحب أيضاً. كل ما نتمناه على أمير عسير - وليس ذلك عليه بعسير - أن يأخذ الاعتبارات البيئية في الحسبان عند إنشاء تلك القرى الجديدة والمشاريع السياحية النابضة. أن يتجنبوا إزالة غابات الشورى والقندل الساحلية فهي مصدر لثراء الثروة السمكية ومصدر حماية لتآكل السواحل وللتوازن البيئي. أن يتجنبوا تجمعات نخيل الدوم والنباتات البرية فهي رئة الشاطئ، تنقي الهواءوتحد من اندفاع السيول وتشكل مصدراً لغذاء كثير من الحيوانات البرية. ألا تصرف النفايات السائلة أو الصلبة في البحر وأن تحدد حيازات بيئية بعد دراسة متأنية يحظر تغيير طبيعتها تشكل متنفساً لهؤلاء الناس ومصدرا للجذب السياحي. أعرف أن الأمير الشاعر لم تغب البيئة عن باله فهو أحد رجالها المخلصين، ولكن الذكرى تنفع المؤمنين. كنت ألملم أوراقي ومعداتي الحقلية بعد أسبوع تهامي الملمح والسمات قضيته في تمشيط الساحل من جنوب العروس وحتى جازان عروس الجنوب تلك المدينة التهامية التي تحتاج إلى وقفة قد يسعفني الوقت للكتابة عنها لاحقاً. حملت أوراقي وغادرت الساحل التهامي الجنوبي. غادرته محملاً بالفل والكادي وعبق صيادي الأسماك والمزارعين على ساحل البحر ووجوه الناس الطيبين. غادرته محملاً بهمِّي وهمومهم. كنت مجرد شاهد. شاهد ولكنني فتحت عيوني على كل شيء لامس ضميري وتبقى في ذاكرتي، فتحت عيوني وقلبي عليكم أيها الناس في بلادي.
تهامة |