عرض: أثير السادة
الكتاب: سيكولوجية فنون الأداء
تأليف: د. جلين ويلسون
ترجمة: د. شاكر عبدالحميد
إصدار: سلسلة عالم المعرفة - 2000
الملل والرتابة حينما يلفان الحياة بخيوطهما يصبح المسرح ضرورة كأداة تسلوية بالدرجة الاولى يرى فيها الدكتور جلين ويلسون وسيلة لطرد وتبديد هذا الجو المهدد للانسان، وابتكارا لاستعادة المتعة وصنع الاثارة عبر الاشتغال على آليات التمثيل وتفعيل عناصر التخييل المنسوبة للخبرة الخاصة، على نحو امتاعي تارة لا ينقطع عن مقصده الترفيهي واستكشافي وتربوي تارة اخرى يطلق العواطف من عقالها ويحقق البعد التطهري للمسرح حيث النجاح المرصود للمسرح هو في اتصاله بالحاجات والرغبات والمخاوف التي يحملها الجمهور.
فالتحرر من الانفعالات القوية والتخفف من وطأتها تتأتى عن طريق الاستثارة المتحققة عن مشاهدة خبراتنا الشخصية وذاكرتنا في العرض المؤدى، دون أن تعني هذه الاستثارة ذات الصلة بالخبرة الانفعالية كما يرى المؤلف تحقيقا للقيمة التطهرية للمشهد المسرحي، فهي برأيه فكرة لم تحظ بقبول واسع، على اعتبار أن الاثار السيكولوجية تتباين بتباين مدى الاستجابة المرتبطة بوجود الفروق الفردية، حتي على مستوى الجنس، أي كون المتلقي ذكراً أو انثى، فضلا عن ذلك التباين المحسوب للتراتب الطبقي، في حين يبدو الوعي والمواجهة عند المتلقي شرطين أوليين للتعامل مع الانفعالات القوية.
ومقاربة وعي الجمهور على ما يورد المؤلف تعني ملامسة حوادث لصيقة بمعيشهم اليومي وتجاربهم الخاصة بشكل يحقق التوحد بين النموذج المسرحي المتخيل والانساني الحقيقي لدى المتلقي، كحاث على استعادة الموقف واكتمال حالة الانفعال، وهنا تكون الدلالة الرمزية المتولدة عن المسرح نتاج ادراكات الجمهور واهتماماته.
اللعب يتجلى عند المؤلف كأحد الجذور الغريزية للمسرح، عن طريقة تكتسب المهارات وهو لعب جسماني وعقلي في ان يتصل بفكرة التخييل التي تعين في اكتساب خبرة بديلة لمواقف لا نواجهها بكثرة في حياتنا اليومية فهي اعداد للذات من اجل تحكم افضل بالمواقف، ويمتلك اللعب المسرحي بما هو اداء حي القدرة على النشاط البيولوجي، وتتبدى اعراضه جسمانيا بالتصفيق والتصفير لدى الجمهور في دلالة على التحريك الناتج عن الاداء يجد المؤلف في المحاكاة غريزة اخرى، وهي مصدر سلوكنا الثقافي، ويتصل توق الناس بهذا الجانب بامكانية دمج خزين السلوك الخاص بالسلوك المؤدى مسرحيا.
ثمة جذر سيكولوجي آخر يدفع للاستمتاع بالموسيقى والفنون البصرية، هذا الاستمتاع الذي يمكن بلوغه بالاعمال الذهني في نظام ومعنى المصوغ الفني، فنجد قابلية التنبؤ معيارا لجاذبية العمل الذي يفسد كلما اقترب من شدة الوضوح أو حتى شدة التركيب الذي لا يمكن معه فك رموز الاداء.
ويستند التذوق الفني إلى أمر آخر يطلق عليه المؤلف التمثيل العقلي أو التفكير المجازي الذي يسمح بوصف الصوت مثلاً «من خلال مصطلحات مكانية».
يتعرض المؤلف للطقوس الاجتماعية في جذرها السيكولوجي حيث الطقس في تعريفه له هو «تكرار نمطي مغلق لنشاط ما استجلاباً لاثر سحري» وهو ذو مغزى اجتماعي.
وقد تسللت كثير من الطقوس إلى الاداء المسرحي كالترانيم والرقص والاقنعة والازياء، وصارت لازمة مسرحية تتكرر على نحو واضح في تأكيد على طبيعتها الطقسية، فيما استحالت كثير من التقاليد المسرحية والاوبرالية إلى مصوغات طقوسية، تبوح برغبة الانسان لصناعة الطقوس، تلك الرغبة التي يجعل منها المؤلف مصدرا من مصادر الاداء الفني.
صورة البطل الذي يجيء كثيمة اساسية في الدراما والادب تحظى بمقاربة جميلة في هذا الفصل، فهذه الصورة على عدد انماطها وشيوع استخدامها ترسمها تخييلات الرجال والنساء المدفوعة بشعور خاص بالاحتياج للابطال في المجتمع للتحرر والخلاص من المتاعب، حتى اذا لم يتوافر هذا البطل سعى المجتمع إلى صناعته، وابتكاره من مخيلته، ويمنح البطل في بعض التصويرات الاسطورية طبيعة الهامية، أو تكوينية خاصة تحفظ له خارقيته.
كلام تفصيلي عن الانماط الاشد حضورا وتكرارا في الميثيلوجيا الشعبية في الادب والدراما من صور البطل مذكرا ومؤثنا، يبحث في اوصافها وتصنيفاتها حسب ما رصده علماء البطل إلا وهي الحب والموت يفحص فيه انماط العلاقة المقدمة عبر التصويرات الدرامية بين الحب والموت، ليقف اخيرا عند ثيمة الصراع على السلطة ومن اجل السيطرة.
يمتاز الاداء الحي في المسرح والموسيقى بما يضفيه على المتلقي من شعور الانتساب إلى اللحظة الاجتماعية، وهكذا ما ينصرف إليه المؤلف يعتقد بوجود شركاء ثلاثة في أحداث هذه اللحظة بوصفها جزءاً من مناسبة اجتماعية، وهم: الكتاب أو المبدعون، المؤدون، والجمهور، حيث ينشأ الاستماع من تعاضدهم جميعا.
ولآنية الفعل المسرحي تبدو استجابة الجمهور فورية ومباشرة معبرة عن مستوى التذوق والحساسية الفنية التي تتباين بالضرورة بين افراده، وتترك تلك الردود آثارها غالبا على اداء الممثلين الذين يحرصون على توجيه وضبط ردود الجمهور وانفعالاته وتنظيمها وفق متطلبات المشهد المؤدى. فالتحكم بالصوت في شدته وتصاعده والمسافات بين الكلمات آليات يلجأ اليها الممثل لتهيئة انفعالات الجمهور وتوقيت لحظات التصفيق والتعبير عن الاستحسان، ويورد المؤلف حيلا اخرى لاعداد الجمهور من اجل التعبير عن استحسانه في لحظة معينة.
التوحد عرض آخر من أعراض الاندماج والتأثير السيكولوجي في الدراما حيث القدرة على التقمص الوجداني للشخصيات المؤداة والاشتراك معها في مأساتها علامة تدل على نجاح عملية التواصل بين المجموعات الثلاث التي يمثل عنصر التخييل جامعها الرئيس. وتتصل بعملية التوحد رغبة التماثل مع الشخصيات ذات الحضور القوي أو الكارزمية إلى حد الهوس بها ومحاكاتها في كل شيء، ويتمركز الثقل الكارزمي للشخصيات في تشكيلها البصري ثم الجوانب غير اللفظية كالمتصلة منها بطريقة الالقاء. ويستشهد المؤلف بما استنتجته الدراسات الحديثة المنجزة على خطابات السياسيين في حملاتهم الانتخابية.
وعلى نفس النول ترد عدوى الانفعالات ايضاً في موضوع الضحك حيث تنشط قابلية الضحك لدينا في موقف معين حين يشاركنا الآخرون الضحك في ذات الوقت، حتى السعال يبدأ في الانتقال في قاعة المسرح المكتظ على نحو يشابه تموجات بركة راكدة القيت فيها حصاة. ويناقش المؤلف الكذب كتعبير مخاتل يمكن فضحه عبر قراءة التعبيرات الجسدية كمراقبة الصوت في انخفاضه وارتفاعه وفي سرعته وسعة العينين والتركيز على الحركات غير الضرورية، وهذه علامات يقدر الكذاب على كتمانها كلما غدا اكثر ادراكا للغة الجسد واستفاد من المخزون الخاص بالممثل في داخله.وتذهب بعض الدراسات إلى وجود فوارق تعبيرية بين شقي الوجه الايمن والايسر، فالايسر على سبيل المثال يتسم بقدرة أعلى على التعبير، قد يعود في اسبابه إلى طبيعة الترابط بين عضلات الوجه والشعور الانفعالي.
ويقدم المؤلف لمجموعة من التركيبات الانفعالية تقوم على ثلاث مجموعات من الاشارات غير الملفوظة هي وضعية الجسد، تعابير الوجه وانماط التنفس اختيرت باعتبارها العناصر الاشد ملاحظة والاكثر دلالة انفعاليا وتخضع لتحكم الممثل.
يندفع المؤلف في فصله السادس اكثر فاكثر باتجاه الجسد، ليرصد المعاني المتأتية عن الحضور الجسدي للمثل. يعمد إلى التمييز بين الايماءات كشوارح للكلمات مقصورة على بعض الاجزاء في الجسم، ووضعية الجسد المتصلة بالمكامن الشعورية، إذ ترتهن عملية تفسيرها- أي الايماءة- غالباً إلى السياق الثقافي لما تتباين في معانيها من ثقافة إلى أخرى.
اهتمت الدراسات النفسية في هذا الحقل في تحديد الصلة بين التمظهر الادائي الخارجي وما يجول بداخل ذات الشخص من صراعات.
يسترسل بعدها في تصنيفه لاوضاع الجسد المراوحة بين امتداد وانكماش، وبين اقبال وانسحاب، وهو ما قد يطلق عليه عند البعض تسميات مغايرة كالدافئ والبارد والمسيطر والخاضع، يقترب كثيراً من مباحث سيمياء الاتصال في الفضاء المسرحي، متوسعاً في تفصيل البعد الدلالي للمسافات بين الاجساد، إلى جانب البنية الدلالية للتشكيلات الجسدية التي تتبدل بحسب سرعة وكثافة واتساع الايماءة أو الحركة، مرفقا ذلك بجداول توضيحية لبعض النماذج المتعلقة بالاوضاع الايمائية والادائيات الجسدية. بعدها يمضي المؤلف للحديث عن الوجه الدرامي الكوميدي، وما يرجى منه من اثارة للضحك والمرح، يبحث عن جذور الضحك وبواعثه، ليجد أن الضحك بحسب الدراسات النفسية يمكن أن يكون على المستوى الوظيفي تعبيراً عن التضامن الاجتماعي، يمنح حضورا واندماجا مع الجماعة، كما يصدق عليه أن يكون شكلا من اشكال التعبير عن العدوانية ورفض القيم الاجتماعية.
تنشأ الفكاهة بحسب المؤلف من تمازج القلق والادمان في آن، أو من تعاقبهما كما عند الاطفال، ليصبح الضحك فعل ابطال لحالة القلق المتراكم، وهكذا تكون «الفكاهة هي المحصلة الناتجة عن خليط من علامات التهديد وعلامات الامن، وكلما زاد مقدار التوتر المستثار بدت النكتة اكثر طرافة وهزلا» ص247. وتمثل الفكاهة لعبا ذهنيا وتختلف عملية تذوق الفكاهة من شعب إلى آخر، وقبل ذلك بين الجنسين، فاستجابة النساء للفكاهة وموضوعاتها تفترق في احيان عن الرجل، تبعا للميول. ويرى المؤلف أن طبيعة الاستجابة أو درجة الانفعال تجاه الفكاهة تتوقف ايضا على مدى تلاؤمها ورغبات الجمهور وشواغله، ويشير كذلك إلى أن للجانب الايمن من المخ اثراً في مدى ادراك النكتة وتذوقها، فالفكاهة بنظرة اقتدار عقلي له ارتباط بنشاط المخ البشري، اثبتت التجارب قصور المصابين في جانبهم الايمن من المخ عن فهم النكات على النحو المفترض.
واذا كان للضحك القدرة على ترويض انفعالاتنا الزائدة والتحرر من ضغوطنا النفسية ومواجهة الصدمات بقدر يعيننا على تحمل ومقاومة حتى الامراض، فإن هذه القدرة على صناعة الضحك عند الممثل الكوميدي قد يتصل بها شيء من دعم الاتزان الانفعالي، إلى حد كشفت فيه الدراسات عن ارتفاع معدل حالات الاكتئاب لدى ممثلي الكوميديا، وهو ما سعى البعض إلى تفسيره بالقول بوجود تناقض في حياتهم أو ما يسمى التضاد، وربما ليست الفكاهة إلا آلة لمواجهة حالة الاكتئاب التي يعيشها الممثل، أو لعله الشعور بالنقص والفشل في صنع علاقات مع الآخرين، الأمر الذي يدفعهم لاستجذاب الآخرين حولهم واثارة الانتباه اليهم.وقوة الموسيقى، ورهبة الخشبة وبعدهما ثمن النجاح والشهرة فصول اخرى يختتم بها الدكتور ويلسون اصداره الطريف الجاد الذي يتسم بكثافة المعلومة واتساع نطاقها، يظهر من خلاله الحرص على استيعاب الدراسات المنصرفة إلى هذا الجانب، واخضاعها للتحليل والمقاربة العلمية، مع تطويع واضح للغة بقصد تبسيطها مما جعل من هذا الكتاب وافكاره ايسر للفهم والتناول، ليصير بذلك سفراً نادراً في حقله على مستوى المترجم عربياً.
|