Monday 27th May,200210833العددالأثنين 15 ,ربيع الاول 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

كلما علا صراخه زادت شراستهم كلما علا صراخه زادت شراستهم
الطفل مراد عذّبه 3 جنود إسرائيليين حتى سبّبوا له إعاقة عقلية

  *رام الله - نائل نخلة:
ترك مدرسته على مضض وحمل على رأسه لوحا من الخشب بداخله كعك بسمسم وبعض البيض المسلوق يشق طريقه كبائع متجول فتارة تراه جنوب رام الله على حاجز قلنديا وتارة اخرى شمالها على حاجز سردا.
مراد ياسر محمود خليل «16» عاماً، الفتى الذي تربى وعاش في ازقة مخيم الامعري، المكان الذي يفتقر كالعادة لأدنى متطلبات الحياة الكريمة كثمانية الاف فلسطيني يتزاحمون على كيلو متر مربع.
الحياة الصعبة في المخيم والظروف القاهرة لاسرته صنعت منه رجلا، فبالرغم من صغر سنه، وعوده الطري، اصر على تحمل المسؤولية مبكرا ليساعد والدته واشقاءه الخمسة الصغار.
«كان سعيدا بزملائه في مدرسة الامعري للذكور، لم اسمع منه يوما كلمة واحدة تنم عن ضجره وعدم رغبته بالدراسة، ولكن عندما توفي والده وكان حينها في الصف التاسع الاعدادي، اخبرني انه سيترك المدرسة، وبالرغم من معارضتي الا انه اصر على ذلك وهو يرى المجاعة قد دنت من اشقائه الخمسة» تقول والدة الفتى مراد.
الطفل مراد توجه باحساس عجيب نحو العمل وبخطى واثقة، وكان سعيدا بالدور الذي اصبح منوطا به، اعالة اسرته، بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وكيف لا يكون سعيدا وقد نجح في ابعاد ذل السؤال عن والدته واسرته جميعا.
ترك مدرسته التي احبها، ووضع ذكرياته الجميلة مع اصدقائه جانبا ولكن زرعها بكل تأكيد داخل ذاكرته الغضة، كان سيلجأ اليها كلما داهمه الحنين الى مدرسته واصدقائه فيها لولا الاحتلال!!!
لماذا اختارالفتى مراد حاجز قلنديا او سردا - مع العلم انه يبعد عن مخيمه عدة كيلومترات - مكانا لبيع ما يحمله على لوحه الخشبي المتواضع؟ «انه الشعور بالخجل» هذا ما تقوله ام مراد «لقد كان يحرص على ان لايراه ابناء حارته واصدقاؤه وهو يحمل ادوات عيش اسرته، ويعرضها على المارة فاختار مكانا بعيدا وتحمل تعبا على تعب وهو يصل مكان عمله مشيا على الاقدام في ذهابه وايابه قاطعا أكثر من عشرة كليومترات.
عام مضى والفتى ياسر على هذا الحال يعود كل مساء الى منزله وهو يرسم ابتسامة على شفتيه دون ان يظهر تعب وشقاء يوم كامل امام والدته حرصا منه على عدم خدش قدسية الامومة بداخلها.
ولكن الاسرائيليين، ابناء عمومتنا - على حد زعم ولاة امرنا - كان لهم رأي اخر، ليعيد تشكيل وصياغة مأساة هذه العائلة، ويضيف ألماً على ألم، وعذابا إلى عذاب، فهم لم يكتفوا بما الحقوه بعائلة مراد التي اخرجتها عصابتهم عنوة من بيتهم ومزرعتهم ومدينتهم اللد كآلاف الاسر الفلسطينية عام 48، فلاحقوا الاحفاد إلى باب المخيم الجديد.
5/5/2002، مساء الاثنين، امام فندق سمير ميس، بين قلنديا ورام الله، والذي حوّله جيشهم عام 67 إلى معسكر لهم بدأت قصة مراد.
في ذلك المساء، كان عائدا إلى بيته كعادته كل يوم، اوقفه ثلاثة جنود كانوا على الشارع الرئيسي، ويبدو انهم استغلوا خلو الشارع من المارة أو السيارات، اعتدى ثلاثتهم على الفتى المنهك من يوم عمل شاق على حاجز قلنديا بالضرب، مستخدمين اعقاب بنادقهم، وايديهم وارجلهم وبساطيرهم قرابة ساعة كاملة دون توقف.
صراخ الفتى،،، بكاؤه،، توسلاته،، دموعه،، الدماء التي غطت وجهه،، انينه،،، صوته الذي بدا يختفي شيئا فشيئا،،، لم يشفع له امام الجنود،،، بل على العكس،،، كلما علا صراخة زادت شراستهم،،، حتى خار بين ايديهم وبنادقهم وقهقهاتهم، ليعبروا وبجدارة عن معنى الاحتلال، الذي يكتوي الفلسطينيون - وليس احد غير اطفالهم ونسائهم وشيوخهم وشبابهم - بناره وسطوته.
تركوا فريستهم تغص بدمائها ملقى على الارض، حتى وصل من نقله إلى مستشفى الشيخ زايد في رام الله وكاد يلفظ انفاسه الاخيرة لو لا عناية الله ثم تدخل الاطباء في الوقت المناسب انقذا حياته من نزيف حاد ولكن..؟
ولكن، اليوم على الفتى مراد ان يعيش بدون ذاكرة، ومع انهيار عصبي كامل بفعل الضربات التي تلقاها على رأسه من تلك الوحوش الكاسرة.
«أي عدو هذا،،،» تتساءل ام مراد؟ «انهم قتلة اوغاد» يأتي الجواب من الأم المكلومة، المجروحة، المصدومة بابنها الذي كانت ترى فيه الامل وصمام الامان والمعيل بعد الله سبحانه وتعالى لاسرتها من مذلة السؤال والمجاعة والحاجة..
نظرات تلك الأم تصيب كل من تقع عليه في مقتل اذا كان لديه شيء من الانسانية. كانت عيونها كريمة وأي كرم، بدموعها الغزيرة التي لم تتوقف لحظة واحدة وهي تقف على رأس ابنها في المشفى، حتى بللت منديلها الابيض.
قصة مراد التي بدأت مع جنود الاحتلال الذين تجردوا من كل انسانيتهم ان كان في يوم من الايام لديهم شيء من الانسانية لا يعرف احد اين ومتى وكيف ستنتهي.
فاليوم مراد يتصرف بشكل غريب، لم يكن معهودا عليه من قبل، فيقوم بتوزيع الحلوى والسجائر على الجيران لشعوره بأنه عريس وهذا يوم فرحه، فهو يشعر في صباح كل يوم انه عريس، عريس خارج الزمان والمكان والذاكرة.
ولا ترغب ام مراد ان تفكر في الأيام القادمة لأنها لم تعد قادرة على التفكير هي ايضا، فمراد، معيل الاسرة سابقا هو اليوم بحاجة إلى من يعيله، فعلاجه يتطلب وقتا طويلا ومصاريف جديدة من الادوية والحقن الطبية المهدئة.
ويبقى السؤال، من سيعيل هذه الاسرة التي فقدت معيلها مرتين، الاولى بموت الاب، والثانية ما سببه الاحتلال لبكرها مراد فاقعده بالبيت خوفا عليه من الناس والعكس صحيح، فهو لا يعي تصرفاته، فقبل ايام قليلة حاول ان يحرق نفسه؟
ومع ان ام مراد، لم تترك مؤسسة أو وزارة أو هيئة الا ودقت بابها طلبا للمساعدة ولكن دون فائدة، تجيب على هذا السؤال بدمعتين وابتسامة.
الدمعة الاولى عندما يقع نظرها على حال ابنها مراد، الشمعة التي احرقت نفسها لتضيء الطريق لغيرها، والدمعة الثانية عندما تنظر إلى ابنائها الخمسة الباقين وهي لا تعرف كيف ستتدبر مصاريف دراستهم وعلاجهم وملبسهم ومأكلهم، أما الابتسامة فمدعاها الامل بهذا التقرير الصحفي الذي تأمل من خلاله ان يتحرك صاحب ضمير حي.

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved