السبت:
توجهت لعملي كالعادة متأخراً بسبب سهري نصف الليل الأول في نظم قصيدة جادت بها قريحتي الشعرية وكالعادة استقبلني المديرذو القامة القصيرة بوابل من عبارات الشتم والتهزيء، سللت قلمي ولم أعره ذرة اهتمام، فقد اعتدت على ذلك، بعد انتهائي من التوقيع رمقته بنظرة باردة تحمل معاني كثيرة أشك في أنه لا يفهمها، إن مجرد النظر إليه يثير بداخلي حساسية البغض. أحياناً لا ألومه عندما يشيد بعيوبي فلدي من الصفات ما تلازمني كظلي لا أستطيع الانفصال عنها فمن تلك الصفات «التمرد» نعم.. التمرد، أتمرد على واقعي والناس من حولي وعلى نفسي أيضاً، أكره الروتين، وأكره العمل لأن العمل في اعتقادي واعتقاد كبار الموهوبين هو كبت للابداع والحرية، العمل وضع لطبقة الأغبياء كمديري الذي يعشق النكد والروتين، انصرفت من مكتبه بعد تلك النظرة وهو ما زال يخطب وكأنه قائد اسطوري. دخلت مكتبي الذي يشاركني فيه أربعة من الزملاء، ألقيت السلام فوصلني الرد ناقصاً من الحروف الأخيرة خالياً من الحماس (الطيور على أشكالها تقع) هؤلاء هم على شاكلة السيد المدير آلات وضعت على المقاعد، أتوقع أنني عندما أقابل أحدهم خارج مكان العمل لن أتعرف عليه لكثرة انحنائهم على الورق المكدس أمامهم والتي ضاعت فيه ملامحهم، أجلس على مكتبي الخالي من المعاملات، أتململ.. الجو خانق، أحاول عبثاً استدراج أحدهم للحديث في مجالات الأدب والثقافة، في الابداع.. لا مجيب، وهل تتحدث الآلات؟
الأحد:
أتسكع على خارطة الرصيف أتأمل وجوه المارة فأجدها خالية من أي تعبير جميل، اهتموا بالشكل الخارجي لذواتهم وأهملوا الجزء الداخلي والأهم ليظل فارغاً متصدياً، أرى في وجوههم انذارات توحي بالخطر فهي أشبه في نظري بجمجمة خلف عظمتين متقاطعتين، تمتلئ المطاعم المتناثرة بالناس وكأنهم لم يخلقوا إلا ليأكلوا أما مطاعم العقل القليلة فتكاد تخلو منهم، حركاتهم البلهاء تجرحني وتكاد تقتلني حسرة، أعود لداري محملاً بسهام همومي فأتقيها بكتاب.
الاثنين:
الجو بارد، لم يعد لحافي ذوالشقوق المتجاورة وكانه عقل عربي يفيد، أجمع بعض الأوراق الهامشية والمتراكمة وأحرقها لتدفئني وعليها أطبخ عشائي، فلم يعد يكفيني مرتبي لكثرة الحسومات والدائنين فهم أكثر من يزورني في داري، لا يهم.. فلست بأفضل من عظماء العالم الذين سبقوني، فمعاناتهم كانت في قلة الطعام ورداءة المسكن لان اهتمامهم أكبر من ذلك وأجل، بالجوهر.. بالعقل والمعرفة.. بالمستقبل الزاهر، عانوا ليستريح غيرهم، زرعوا ليحصد من بعدهم.
الثلاثاء:
اليوم سوف أنتهي من وضع اللمسات الأخيرة على ديواني الثاني فأنا متأكد وبلا أدنى شك من أنه سوف يحوز استحسان النقاد واعجاب القراء.. سيكون بمثابة مفاجأة لهم، ولسوف ينجح، صحيح أن ديواني الأول لم يلق حظه من النجاح المنشود الذي توقعت مع غياب الأسباب بدليل أنني عندما انتهيت من طباعته ونشره لم تخرج من المكتبات إلا نسخة واحدة، بحثت عن صاحبها دون كلل، وصعقتني المفاجأة عندما وجدت أنه مختل عقلياً. أما ديواني الثاني فأنني واثق بأن جميع المختلين عقلياً سوف يطلعون عليه، وعندها.. عندها فقط سوف أتخلص من طلبات البقال.
الأربعاء:
توجهت لمقر عملي ودخلت على السيد المدير أحمل في يدي ورقة استقالتي، قدمتها له قبل أن ينبس بكلمة ويسمعني خطبته، «الآن خمدت الثورة سيدي»! قرأ استقالتي من خلف نظارته السميكة المقيدة باذنيه والتي لا تزيده إلا غباء، نظر إلي نظرة بلهاء وقال: الآن قررت اراحتنا، أين أنت منذ زمن؟ هذا توقيعي بالموافقة، سلم لي الورقة وطلب مني التوجه لشؤون الموظفين لاستكمال الاجراءات المتبقية، هممت بالانصراف ولما وصلت الباب استدرت نحوه مخاطباً اياه: سيدي الهرم الماج، شد الله عصبك وسمم شفتيك وأسكت لسانك وأسود وجهك وأباد خضراءك، وتركته في غضبه، أنهيت استقالتي وأخذت حريتي، فتوجهت لأحد النقاد لعرض ديواني عليه وكتابة مقدمته، طلب مني أن أعود بعد ساعة، ولما عدت أجلسني وحاول افهامي بان هذا ليس شعراً وان ابنه البالغ من العمر عشر سنوات قادر على كتابة مثل هذا الكلام فالأسلوب ركيك والمعنى معدوم والقافية بدون.. خذ أصلح الله حالك، لا يمكن أن يكون هذا الكلام صحيحاً يبدو أنني دخلت على بائع للأثاث المستعمل. التقطت الديوان متوجهاً به لدار النشر والتوزيع، وقدمته لهم وبعد تفحصه اعتذروا لي عن طباعته.
ما الذي أسمعه؟ لقد انتهى أملي بالحياة!! أأعود للسيد المدير؟ لا لا .. لا يمكن..
عدت لداري لا تكاد تحملني قدماي، انكفأت وسط لحافي، ألف ألف تساؤل يدور في رأسي، وألف ألف فكرة احتجبت عن عقلي المرتعد، بقيت على هذا الحال إلى أن انجلت سحابة سوداء من تفكيري وقمت فزعاً!!
وجدتها.. وجدتها..
الخميس:
حملت علب قصائدي حتى وصلت إلى اشارة مرورية في طريق كبير وقمت ببيعها على أصحاب السيارات الفارهة التي أتوسم في أصحابها تضخم ثرواتهم وعلو مكانتهم الاجتماعية وحبهم للشهرة دون أي مجهود منهم، وطلوعهم على اكتاف غيرهم، حتى نفدت جميع القصائد وحصدت مالاً لم أكن لأحصده لو أنني طبعت الديوان، لقد أصبحت من الأثرياء.
الجمعة:
ابتعت مجموعة من المجلات والصحف لأجد قصائدي تحتل المساحات البارزة فيها بمقدمات من المحررين يمتدحونها ويثنون على أصحابها، مذيلة بأسماء غير اسمي، ابتسمت لهذا النجاح الذي كنت واثقاُ منه.
|