سيدة من خضرة السدر وتاريخ النخيل
امرأة من ليونة التمر وصلابة البلح
صبية من سطوع الشمس وغموض الأصيل
طفلة من هواء طلق يهب من شرق الوطن
حملت أم مرجان من القصيم سماحة أهلها، حياء نسائها وجمالهن الستير، تدفق مياهها الجوفية، حملت من تلك الأرض الصاخبة بالخصب ضحكات أطفالها، شظف طرقاتها وكبرياء مدنها وقراها، وحطت رحالها في أحد أحياء الرياض البعيدة.
لم تأت السيدة الولود الودود إلى العاصمة حيث الكهرباء والهاتف والأسواق المكيفة والمباني الشاهقة والتمور المعلبة وازدحام السيارات واختلاط اللهجات والتقاء الغرباء لتستريح بل أتت لتواصل الكفاح الذي بدأته منذ كانت طفلة تشارك في تفليح الأرض في تقليم الشجر وجني الثمار.
كانت الطفلة كمعظم بنات ذلك الجيل من نساء سنها مجبولة من حرارة الزنجبيل، من تضوّع النعناع وحرقة الترنج. لم تعرف من الجديد إلا ثوب العيد، لم تجرب من دهشة الصغار الا مفاجأة تحول عجينة الحناء إلى نقوش حمراء على الأكف الرهيفة كمراوح اليد التي كانت تصنعها من العسيب.
كانت الصبية التي تفوح من جدائلها المموجة رائحة المشاط والريحان عروساً صغيرة كنساء ذلك الجيل اللواتي ينتقلن إلى بيت الزوجية ومازال على ايديهن تراب اللعب وعلى زنودهن السمراء النحيلة عرائس القطن المرسومة بكحل الأمهات.
ولم يكن غثيان الوحم، مواجع الحمل، آلام المخاض تقرحات الرضاعة، السهر إلى ما بعد منتصف الليل والصحو ما قبل صلاة الصبح في مكابدة الصغار إلا واحدة وحسب من مراحل ذلك الكفاح وجبهة واحدة وحسب من جبهاته الشجاعة.
كان على تلك السيدة كمعظم نساء جيلها المكافح أن تعجن وتخبز وتحلب وتخيط وتقدد وتقهوي و«تُعزب» وتطبب وتستضيف وتضيف وتتزين في كل الحالات بالصبر والسمت مما هو أغلى حليِّ النساء في ذلك الوقت. كان عليها ان تغسل «المواعين» والثياب وحجرات الدار كما تغسل الكدر عن وجه كل من عرفها بابتسامتها الخجولة الساحرة ودعواتها الطيبة.
لم أعرف بنت الجزيرة العربية تلك المرأة الصابرة الآسرة الحرون المحببة الا باسم أم مرجان تكنياً وتيمناً باسم ابنها البكر على مايبدو ولكن رمز أيضا للكنية التي يتنازل بها الآباء والأمهات عن هويتهم الشخصية حباً وكرامة من اللحظة التي يولد فيها البنات والأبناء ليفسحوا المجال لموجة الجيل الجديد.
غير أن كل من عرف أم مرجان يعرف أن اسمها يمكن أن يكون خديجة أو فاطمة، هاجر أو سارة، بلقيس أو أسماء نظراً لذلك الشبه العميق بين سيرة كفاحها اليومي البسيط وبين التاريخ النسائي العظيم الذي ورثناه جيلاً بعد جيل من أولئك النساء.
كانت أول من يصل الى العمل تسبقها أنفاسها المتقطعة التي تعالجها من شحنات الربو بالتهليل والتسبيح والتكبير.
لم تتعلم طوال فترة عملها عادات التذمر وكانت تعاف العادات الذميمة. كانت تعمل بإخلاص وحب يعطي قيمة للعمل البسيط الذي تقوم به فكانت تلك المرأة التي لم تذهب إلى المدرسة تعطي دروساً دون فصل أو سبورة لنساء يحملن الشهادات وأولهن أنا.
من اليوم الأول الذي لمحتها على مد البصر تجلس في مكان ضيق عند الباب لأداء عمل روتيني بسيط بصبر وجدية نادراً ما يجربها الوزراء أو الحجاب من كبار الموظفين أو صغارهم رأيت في أم مرجان صورة نابضة حية من كفاح النساء.
نساء يلتفعن سواد العباءة وبياض المستقبل يؤدين أعمالاً تتطلب صبراً ومثابرة سواء في البيع والشراء على هامش الأسواق أو بالعمل في المؤسسات الحكومية والأهلية نساء لا يكسبن لقمة العيش الحلال إلا مغموسة برحيق العرق وعبير الجهد. وتحتاج مجهوداتهن الشخصية إلى تعزيز اجتماعي ودعم.
فشكراً لموظفات الإدارة النسائية بالدرعية من جامعة الملك سعود على مبادرتهن الشخصية في الاحتفاء بأم مرجان وهي تنتقل الى التقاعد بعد مرحلة حافلة بالعمل إلى مرحلة محفوفة بالحب والعمر المديد بإذن الله.
وهو تقليد جيد وجميل أن يحتفى بالعاملين والعاملات بالجامعة في جميع مواقع العمل.
هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|