كنت في بداية السنة الرابعة من المعهد العلمي السعودي في المدينة المنورة سنة 1374ه عندما شاهدت شابين من شباب المدينة وقد دخلا علينا فصولنا الدراسية فعلمت أنهما قد عادا لتوهما يحملان شهادة الليسانس من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة وهما حمزة عابد شفاه الله وعبد العزيز الربيع رحمه الله فرحنا بهما فهما من أوائل الشباب الجامعي الذين عادوا إلينا يحملون أرقى الشهادات العلمية على مستوى ذلك العصر. التففنا حولهما، تحدثا إلينا، نشأت بيننا وبينهما صداقة، توليا أمر النشاط الثقافي في المعهد، كان نشاطنا لا يتعدى القصائد والكلمات وبمجيئهما بدأنا في نشاط جديد لم نعهده وهو النشاط المسرحي. يبدو لي أن الشابين وضعا خطة لم أتبينها إلا لاحقا فقد كنا ثلاثة طلاب معروفين بحسن السمعة والاجتهاد ومن أسر دينية زميلي محمد بن عثمان الصالح وأحمد بن محمد الضبيب وأنا، فكانت خطتهما هي التركيز علينا واستمالتنا للتمثيل ذلك لأننا إذا اشتركنا فسيشترك آخرون إذ كان التمثيل آنذاك عملا غير مرغوب فيه ولعل مما أقنعنا أنهما قدما لنا نصوصاً شعرية كان حفظها يعد ثروة لغوية وتاريخية في الوقت نفسه، كمسرحية «العباسة» وغيرها كثير وإذا بأولئك الثلاثة يشاركون ويشارك معهم طلاب آخرون وأصبح الطلاب جميعهم يتنافسون للمشاركة وبذلك تحول المعهد إلى متنفس للمدينة كلها لدرجة أننا كنا نخاف ليلة النشاط أن يسقط المبنى من كثرة المشاهدين والذين يملؤون أدواره الأربعة وما زال الكثير من أبناء المدينة ممن عاصروا تلك الفترة يذكرون تلك الليالي.
فجأة اختفى الشابان من النشاط بعد أن بذرا تلك البذرة الممتازة واستمر المعهد في نشاطه ذلك. حمزة عابد سافر إلى مكة وتسنم مركزاً مهماً في وزارة المعارف أما عبدالعزيز الربيع فقد أصبح المسئول الأول عن التعليم في المدينة المنورة وخلف في ذلك عالماً من أبناء المدينة الأستاذ محمد سعيد دفتردار الذي فضل التحول إلى مدرس في المدرسة الثانوية، ويترك العمل الإداري فما كان لعالم مثله أن يشغل نفسه بعمل إداري فقد كان رحمه الله من خيرة من أثر في شباب المدينة بتأليفه كتاباً عن الأدب الحديث كان مقرراً علينا ويكفيه فخرا أنه كتب في جريدة المدينة المنورة سلسلة عن أعلام المدينة المنورة فكان بذلك رائداً من رواد الكتابة عن وفيات الأعيان في المدينة كما أنه كان من أوائل من شارك في تأسيس أسرة الوادي المبارك. لقد خلف الربيع الدرعمي الدفتردار الأزهري في تسيير دفة التعليم في المدينة وقد أصبح الربيع ركناً من أركان الفكر والأدب ردحاً من الزمن شارك بكل اقتدار في مسيرة الأدب السعودي نشراً وتأليفاً ومشاركة وجدلاً، أما الدرعمي الثاني الأستاذ حمزة عابد فقد ركز نشاطه على التوجيه والمناهج والإدارة في وزارة المعارف ثم انتقل مع الوزارة إلى الرياض وكان له دور لا ينكر في وزارة المعارف فلا يذكر حتى الآن في الوزارة إلا ويذكر بخير كنا ندخل عليه في مكتبه في الوزارة فنجده جالساً القرفصاء على كرسيه مبتسماً تلك الابتسامة التي تزيل كل تحفز أو وجل ويتحدث إلينا بلهجتنا فنشعر أن حمزة عابد لم يغيره المنصب وما زال هو ذلك الشاب الذي عرفناه في المدينة، كنا نذهب إليه في داره في الملز فنجد منه كل ترحاب كان الأخ الأكبر لنا.
انتقل الأستاذ حمزة عابد إلى دمشق ملحقاً ثقافياً فكان نعم السفير للثقافة السعودية الأمين على تمثيل بلاده أجمل تمثيل، زرته في مكتبه وكان في منطقة ذات حراسة مشددة فقلت له كيف تستطيعون أن تعيشوا في جو كهذا قال لي: كما ترى، قلت له: مثلك من يتحمل هذا وقد علمتنا المدينة الصبر والتحمل، لم أقابله بعدها ولكنه كان يمدني بين الفينة والأخرى بما تقع عليه يده من كتب ذات صلة بالآثار وأخيرا أصبح مسؤولا عن الأيتام في سوريا فطوبى له رعايته للأيتام جعلها الله في موازين حسناته وشفاه الله ومتعنا بحياته.
أ.د. عبد الرحمن الطيب الأنصاري عضو مجلس الشورى سابقاً
سيرة ذاتية
|