Wednesday 15th May,200210821العددالاربعاء 3 ,ربيع الاول 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

قمة الأمير عبد الله والرئيس بوش تعيد ذكريات إمكانية التحول في الموقف الأمريكي قمة الأمير عبد الله والرئيس بوش تعيد ذكريات إمكانية التحول في الموقف الأمريكي
بعد لقائه بالملك عبد العزيز.. هل كان روزفلت سيعيق قيام دولة إسرائيل لو امتد به الأجل؟! (2)
د. محمد أبوبكر حميد

  خمسون عاماً على ترجل الفارس 2-3
فنَّد الملك عبدالعزيز في رسالته التاريخية للرئيس روزفلت في 10/3/1945م، ان دعوى اليهود التاريخية في فلسطين باطلة وان وجودهم وحكمهم القصير في فترات متقطعة ومتباعدة لا يخولهم الحق في امتلاك فلسطين واخراج شعبها منها.
ووقف الملك عبدالعزيز وقفة متأنية أمام فكرة حل مشكلة اليهود، مؤكداً ان هجرتهم إلى فلسطين ومحاولة تأسيس دولة لهم فيها لا يحل قضيتهم اذا كانت لهم أصلاً قضية.
وقال الملك عبدالعزيز ما نصه «... فإن إيجاد أماكن لليهود المشتتين يمكن أن يتعاون عليها جميع العالم، وفلسطين قد تحملت قسطا ً فوق طاقتها، وأما نقل هؤلاء المشتتين ووضعهم في بلادٍ آهلة بسكانها والقضاء على أهلها الأصليين فأمر لا مثيل له في التاريخ البشري».
وضع الملك عبدالعزيز أمام الرئيس روزفلت أربعة محاذير إذا لم تأخذ بها الولايات المتحدة الأمريكية في سياستها تجاه العرب واليهود في فلسطين فإن قضية فلسطين ستصبح مشكلة عالمية وان الولايات المتحدة بدعمها لليهود وتشجيعها لهجرتهم لفلسطين ستتسبب في اخراج شعب من أرضه وقيام دولة غريبة.
ومن هنا وضع الملك عبدالعزيز النقاط على الحروف أمام الرئيس روزفلت في خطابه الشهير له سنة 1945م، وقال إن الدعم الأمريكي لليهود سيؤدي إلى «1» قيام اليهود بسلسلة من المذابح للفلسطينيين، «2» إفساد العلاقة بين العرب والحلفاء وتدبير اليهود لحادث مقتل اللورد موين في مصر أكبر دليل على ذلك. «3» مطامع اليهود ليست في فلسطين وحدها، فإن ما أعدوه من عدة تدل على انهم ينوون العدوان على البلدان العربية المجاورة، «4» استغلال اليهود بمكان معين في فلسطين سيجعلهم يطلبون الدعم من جهات معادية للحماية وابتلاع فلسطين كلها.
قال الملك عبدالعزيز للرئيس روزفلت انه يتمنى ألا تكون الولايات المتحدة وسيلة لتحقيق طموحات إسرائيل في الاحتلال والعدوان وتشريد شعب بأكمله، وقد تحقق ما حذر منه الملك عبدالعزيز في النقاط الأربع التي حددها للرئيس روزفلت قبل قيام دولة إسرائيل بثلاث سنوات.
وفي رسالة نشرتها جريدة الاهرام في 19/10/1945 وهي رسالة تاريخية شرح فيها الملك عبدالعزيز تاريخ عروبة فلسطين شرحاً مفصلاً مما يثبت عدم أحقية اليهود في تلك الأرض، وقال ما نصه «إن العرب أول سكانها سكنوها منذ ثلاثة آلاف سنة وخمسمائة قبل الميلاد، واستمر سكناهم فيها بعد الميلاد إلى اليوم وحكموها وحدهم ومع الأتراك 1300 سنة تقريباً، أما اليهود فلم يتجاوز حكمهم لها 280 سنة وكلها اقامات متفرقة مشوشة، وسنة 232 قبل الميلاد لم يكن لليهود في فلسطين أي وجود إلى ان دخلت القوات البريطانية فلسطين سنة 1918، ومعنى ذلك ان اليهود منذ 2200 سنة لم يكن لهم في فلسطين أي وجود ولم يكن عددهم يزيد عن «000 ،80» عندما دخل الإنجليز فلسطين، وكانوا يعيشون في سلام وأمان مع سكان فلسطين الأصليين من العرب، تلك حقيقة بسطها الملك عبدالعزيز أمام الرئيس الأمريكي روزفلت وهي واحدة من الأفكار التي حوتها تلك الرسالة التاريخية.
وخلاصة رأي الملك عبدالعزيز ان تكوين دولة يهودية في فلسطين سيكون إسفيناً في قلب الوطن العربي ومهدداً للسلم في المنطقة باستمرار، لأنه سيسبب عدداً من الحروب بين العرب واليهود، وذكّر الملك عبدالعزيز الرئيس الأمريكي بمصلحة الحلفاء مع العرب وبما يمكن ان ينتج عنه فائدة للطرفين، وقال انه لا يعقل ان يضحي الحلفاء بمصالحهم مع عدة دول عربية من أجل فئة قليلة من يهود العالم تركوا أوطانهم الأصلية في الشرق والغرب وأرادوا اغتصاب أرض ليست لهم، ودعا الملك عبدالعزيز الحلفاء لذلك لعلهم يتفكرون لكن صوته رحمه الله كان صرخة في واد لقومٍ لا يفقهون.
ولم يكن الملك عبدالعزيز يخاطب الرئيس روزفلت وحده بل كان يخاطب زعامات الحلفاء في شخص روزفلت كان يقول: «كل ما أرجوه ان يكون الحلفاء على علم بحق العرب ليمنع ذلك تقدم اليهود في أي أمر جديد يعتبر خطراً على العرب وعلى مستقبلهم في سائر أوطانهم، ويكون العرب مطمئنين من العدل والإنصاف في أوطانهم».. 10/3/1945م.
وقد رد الرئيس روزفلت برسالة في 5/4/1945م أكد فيها للملك عبدالعزيز انه لايزال عند ما وعده به، وهو الا تتخذ الولايات المتحدة قراراً بشأن فلسطين إلا بعد الرجوع للعرب واليهود معاً، بل ذهب الرئيس روزفلت إلى أبعد من ذلك وعاد يؤكد للملك عبدالعزيز انه يعده ان لن ولا يتخذ قراراً بصفته رئيساً للولايات المتحدة يمس الشعب العربي أو يُشتم منه رائحة العداء له، وقال الرئيس: «وانه لمما يسرني ان أجدد لجلالتكم التأكيدات التي فهمتموها جلالتكم سابقاً بخصوص موقف حكومتي وموقفي كرئيس للسلطة التنفيذية فيما يتعلق بقضية فلسطين، وان اعلمكم بأن سياسة هذه الحكومة في هذا الخصوص غير متحيزة»!!.
ويشهد الذين عاشوا بالقرب من الرئيس روزفلت ان منطق الملك عبدالعزيز عن قضية فلسطين كان له كبير الأثر على الرئيس الأمريكي، فقد تحول روزفلت في آخر أيامه عن انحيازه لإسرائيل وأدرك خطأ مساندته للصهيونية العالمية، فقد ورد في الصفحة 524 من كتاب بوجونسوف المعروف بعنوان «تاريخ اليهود» ما ترجمته بالحرف الواحد: «ومن حُسن حظ إسرائيل ان الرئيس روزفلت توفي في اليوم الثاني عشر من شهر ابريل لعام 1945، فلقد تحول الرئيس روزفلت في الأسابيع الأخيرة من حياته إلى رجل مضاد للصهيونية، وذلك بعد اجتماعه بالملك عبدالعزيز بن سعود بعد مؤتمر يالطا، لقد قال لي مساعد الرئيس روزفلت ديفيد نايلز «David Niles» المعروف بتعاطفه مع الصهيونية: انه يشك الشك العميق في تحقيق قيام دولة إسرائيل لو ان روزفلت كان على قيد الحياة».
وقد جاء في مذكرات الادميرال ليهي رئيس الغرفة العسكرية في البيت الأبيض ان روزفلت قال له بعد اجتماعه بالملك عبدالعزيز: «انه أمضى عشر سنوات وهو يحاول عبثاً فهم قضية فلسطين، ثم استطاع الملك عبدالعزيز ان يفهمه لب هذه القضية في عشر دقائق».
لقد استطاع الملك عبدالعزيز بما آتاه الله من حكمة ودبلوماسية ان ينتزع هذا الوعد الأمريكي بعدم اتخاذ قرار عدائي لعرب فلسطين وبعدم التحيز، وهو ما لم يستطعه أي زعيم عربي قبله، ولا شك ان الرئيس روزفلت قد تفهم الموقف العربي من الملك عبدالعزيز وأغلب الظن انه اقتنع به، الأمر الذي دعاه ان يقول كلمته الشهيرة بعد لقائه بالملك عبدالعزيز: «لقد فهمت من جلالة الملك عبدالعزيز في عشر دقائق عن قضية فلسطين ما لم استطع فهمه في عشر سنين»، ولم يكن هناك فرق بين القناعة وبين القدرة على التعبير، هل كان الرئيس روزفلت آنذاك قادراً على الوقوف في وجه الطوفان اليهودي الضاغط عليه، هناك من يرى ان روزفلت لو امتد به العمر ربما استطاع الاعتدال أو الوقوف على الحياد.. ربما استطاع وربما لم يستطع وبموته ومجيء الرئيس ترومان تقلبت المواجع على العرب واختلت الموازين من جديد ولم يكل او يمل الملك عبدالعزيز فعاود الكرة معه.
ترومان والعودة إلى الوراء
لم ييأس الملك عبدالعزيز ولم يكل أو يمل من الاتصالات حتى بعد وقوع ما حذر منه، فقد راسل الرئيس الأمريكي هاري ترومان وشغله بقضية فلسطين كما شغل سلفه الرئيس روزفلت، ففي رسالة بعث بها إلى ترومان بتاريخ 23/6/1365هـ الموافق 21946/5/4 ذكّره فيها ان شعب فلسطين أحق الشعوب الآن بدعم وتأييد الولايات المتحدة بصفتها حاملة مشعل الحرية والدفاع عن الشعوب المظلومة، وأكد له ان أرض فلسطين لن تحل مشكلة اليهود، وان الذين يحاولون حل مشكلة اليهود في فلسطين سيخلقون مشكلة أكبر وأعظم، وأكد له بصراحة:
«.. إن قضية إيجاد ملجأ لضحايا الظلم النازي والفاشيستي، لقضية إنسانية تحتمها مبادئ العدل والانصاف والحرية، ولكن فلسطين لا يمكن ان تحل قضية هؤلاء اليهود الذين انتهى الآن وقت اضطهادهم، بزوال قوات الظلم والطغيان، وقد أوضحت اللجنة المشتركة هذا الأمر في توصيتها الأولى، والصهيونيون يتخذون أمر هؤلاء اللاجئين وسيلة لنوال أغراضهم السياسية في فلسطين، وإننا نربأ بالحكومة التي يترأسها فخامتكم، ان تكون مؤيدة لهذا العمل الذي ينظر إليه كل عربي بأنه ظلم فادح لا مثيل له في التاريخ.
أصبح العرب يا صاحب الفخامة ينظرون إلى قضية فلسطين، كأنها قضية حياة أو موت، وهي ان لم تعالج بالحكمة، وعلى اساس احترام حقوق العرب فإنها قد تجر إلى متاعب ومشكلات لا يعلم نتائجها إلا الله..».
وعندما صدر عن الرئيس ترومان تصريح يؤيد زيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، كتب إليه الملك عبدالعزيز رسالة يعبر فيها عن دهشته لصدور ذلك منه بعد العديد من رسائل التفاهم التي أرسلها له ولسلفه الرئيس روزفلت، وقد جاء في رسالته إلى ترومان بتاريخ 18/11/1365هـ الموافق 15/9/1946:
«.. ولقد كتبت للراحل العظيم ولفخامتكم، عن حقيقة الموقف في فلسطين، والحق الطبيعي للعرب فيها، وان ذلك يرجع إلى آلاف السنين، وان اليهود ليسوا إلا فرقة ظالمة باغية معتدية، اعتدت في أول الأمر باسم الإنسانية، ثم أخذت تظهر عدوانها الصريح بالقوة والجبروت والطغيان، مما ليس بخاف على فخامتكم وعلى شعب الولايات المتحدة.
أضف إلى ذلك أطماعهم التي يبيتونها ليس لفلسطين وحدها، بل لسائر البلاد العربية المجاورة، ومنها أماكن في بلادنا المقدسة».
كانت هذه الرسالة صدى لتصريحات في تأييد الصهيونية أدلى بها ترومان أرّقت الملك عبدالعزيز وأقضّت مضجعه، فقال له بصراحه، وبمبادئ صاحب سياسة الوجه الواحد:
«لقد دهشت للإذاعات الأخيرة التي أذاعت تصريحاً لفخامتكم بدعوى تأييد اليهود في فلسطين وتأييد هجرتهم إليها بما يؤثر على الوضعية الحاضرة فيها خلافاً للتعهدات السابقة».
قال الملك عبدالعزيز له: «لقد زاد دهشتي ان التصريح الذي نُسب أخيراً لفخامتكم يتناقض مع البيان الذي طلبت مفوضية الولايات المتحدة الأمريكية في جدة ان ينشر في جريدة «أم القرى» باسم بيان أدلى به البيت الأبيض بتاريخ 16/8/1946م».
ويقول ذلك البيان بأن حكومة الولايات المتحدة لم تتقدم بأية فكرة من جانبها لحل مشكلة فلسطين، وقال الملك عبدالعزيز للرئيس ترومان: «لقد أظهرتم أملكم بحلها بواسطة المحادثات بين الحكومة البريطانية والفريق الثالث وأظهرتم فخامتكم رغبتكم في اتخاذ تسهيلات لايواء المشردين ومنهم اليهود، ولذلك كانت دهشتي عظيمة حين اطلاعي على البيان الأخير الذي نُسب إلى فخامتكم الأمر الذي جعلني أشك بصحة نسبته إليكم لأنه يتنافى مع وعود حكومة الولايات المتحدة الأمريكية ومع التصريح الذي صدر في 16/8/1946م من البيت الأبيض..».
وقال له الملك عبد العزيز رحمه الله مذكراً بسياسة «المعايير المزدوجة» التي يفترض أن لا تتبعها دولة ذات مبادئ مثل الولايات المتحدة الأمريكية: «وإني لعلى يقين من أن شعب الولايات المتحدة الذي بذل دمه وماله في مقاومة العدوان الغاشم، لا يمكن أن يسمح بهذا العدوان الصهيوني على بلد عربي صديق، لم يقترف ذنباً غير إيمانه بمبادئ العدل والإنصاف، التي قاتلت من أجلها الأمم المتحدة، وكان من أركانها بلاد الولايات المتحدة، وكان لفخامتكم، بعد سلفكم العظيم، المجهود العظيم في هذا السبيل.
ورغبة مني في المحافظة على صداقة العرب والشرق مع الولايات المتحدة، أوضحت لفخامتكم، بهذا البيان، الظلم الذي يمكن أن يحيق بالعرب، إذا بذلت أية مساعدات لهذا العدوان الصهيوني. ويقيني أن فخامتكم ومن ورائكم شعب الولايات المتحدة، لا يمكن أن يقبل بأن يدعو للحق والعدل والإنصاف، ويحارب من أجل ذلك ليقره في سائر أنحاء العالم، ثم يمنع هذا الحق والعدل عن العرب في بلادهم فلسطين التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم منذ العصور القديمة..».
وقد نشرت هذه الرسالة في مجلة الرابطة العربية بتاريخ 26/10/1946م.
ازدواجية المعايير
لقد حرص الملك عبد العزيز في كل رسائله إلى الرؤساء الأمريكيين على تذكيرهم بالمبادئ التي قامت عليها الولايات المتحدة والتي أعلنت رعايتها وحمايتها. وهو يشير في هذه الرسالة وغيرها إلى مواضيع التناقض في السياسة الأمريكية حيال قضية فلسطين .. ذلك التناقض بين المبادئ المعلنة والممارسة الفعلية، مذكراً باستغلال الدعاية الصهيونية لهذه الشعارات، وهو ما جاء في رسالة طويلة بعث بها إلى الرئيس ترومان في 7/12/1365هـ الموافق 1/11/1946م.
«إن مبادئ الإنسانية، ومبادئ الديمقراطية، التي قامت عليها دعائم الحياة في الولايات المتحدة، تتنافى مع إكراه شعب آمن في وطنه بإدخال عناصر أجنبية عنه، لتتغلب عليه وتخرجه من بلاده، مستعملة في ذلك تضليل الرأي العالمي، باسم الرحمة بالإنسانية».
ولم يكن الملك عبد العزيز في رسائله إلى رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية أو غيرهم عاطفياً يكتب من منطلق الغيرة الإسلامية والحمية العربية وحدها، بل كان عقلانياً واقعياً يدعم رأيه بالحقائق والأرقام، وهو في معظم رسائله يشير بصراحة إلى الأساس الباطل في «وعد بلفور» وعد من لا يملك لمن لا يستحق، وعد بريطانيا لليهود بوطن قومي في فلسطين، وفي هذا الشأن نجده يقول في الرسالة نفسها:
«.. لقد قامت الحرب العالمية الماضية، ولم يكن في فلسطين من اليهود أكثر من خمسين ألف يهودي. وقام العرب مع بريطانيا وحليفتها الولايات المتحدة وحلفائهما، فقاتلوا في سبيل قضية الحلفاء، انتصارا لحقوقهم، وانتصاراً للمبادئ التي أعلنها الرئيس ولسن، ومن جملتها تقرير المصير. فما كان من نتيجة ذلك إلا أن أعلنت الحكومة البريطانية وعد بلفور، وأخذت تدخل اليهود إلى فلسطين بالقوة والجبروت، خلافاً للمبادئ الديمقراطية، وخلافاً لأي مبدأ إنساني ، وقد قام العرب باحتجاجات وثورات للدفاع عن حقوقهم، ولكنهم كانوا يجابهون بأقصى ما يمكن من الشدة والقسوة، حتى أجبروا على غير ما يريدون.
ولما قامت الحرب العامة الأخيرة، وتألبت القوات على بريطانيا من كل جهة، وثبتت بريطانيا وحدها، وأظهرت من الثبات والجلد ما حاز إعجاب العالم. وأدى ثباتها إلى انتشال العالم من الخطر المحدق به. في تلك الأيام الحالكة المظلمة، قام أعداؤها يبذلون الوعود للعرب بالقضاء على الصهيونية، وكنت في ذلك الوقت أقدر حراجة الموقف حق قدره، فوقفت حينئذ بجانب بريطانيا، ونصحت العرب أجمعين بوجوب الإخلاد إلى السكينة، وأكدت للعرب أن بريطانيا وحلفاءها، لن يخالفوا المبادئ الإنسانية الديمقراطية التي دخلوا الحرب لنصرتها. فقبل العرب نصائحي، وساعدوا بريطانيا وحلفاءها بكل ما يستطيعون، حتى خرج الحلفاء من الحرب ظافرين. والآن يراد باسم الإنسانية أن تُكره الأكثرية العربية في فلسطين على إدخال شعب بغيض لهم، ليصبح أكثرية، ويصبح الأكثرون الأقلين. وأعتقد أن فخامتكم توافقون معي، على أنه لا يوجد شعب في العالم، يمكن أن يقبل أن يدخل عليه في بلاده شعب أجنبي عنه، حتى تكون له الأكثرية، ويتحكم فيها بما يشاء. وهذه الولايات المتحدة لم تسمح حتى الآن، بإدخال العدد المقترح إدخاله لفلسطين، لكي يدخل بلاد الولايات المتحدة، لأن ذلك يختلف مع نظمها الموضوعة لحمايتها وحماية مصالحها».
بهذا المنطق ومن هذا المنطلق ناقش الملك عبد العزيز مأساة شعب فلسطين مع الرئيس الأمريكي ترومان في هذه الرسالة التاريخية. ووجه إليه هذا السؤال الكبير في أكثر من رسالة: هل تقبل الولايات المتحدة الأمريكية أو غيرها من الدول أن يهاجر إليها اليهود حتى يصبحوا فيها الأكثرية التي تتحكم في المال والسياسة ومصير البلاد؟!.
وفي محاولة أخيرة لإقناع الرئيس الأمريكي بالنوايا العدوانية الاستيطانية لليهود في فلسطين يضرب له المثل بما فعله اليهود ببريطانيا .. اليد التي امتدت إليهم بأكبر عون، ويشرح له هذا الرأي في الرسالة نفسها قائلا:
«.. ذكرتم فخامتكم في كتابكم، أنه يمكنكم أن تؤكدوا أن حكومة الولايات المتحدة تقف ضد كل اعتداء أو أي نوع من أنواع الإرهاب، لأسباب سياسية إذا نفذ اقتراحكم بشأن اليهود. وذكرتم أنكم مقتنعون بأن زعماء اليهود المسؤولين، لا يفكرون في اتباع سياسة العدوان على الممالك العربية المجاورة لفلسطين. وبهذه المناسبة أحب أن أذكر فخامتكم، بأن الحكومة البريطانية هي التي أعطت وعد بلفور، وهي التي نقلت المهاجرين اليهود إلى فلسطين، تحت حماية حرابها، وهي التي آوتهم وآوت زعماءهم، ولا تزال توليهم من شفقتها ورحمتها بهم، ورغم ذلك فإن الجيش البريطاني، يكتوي بنار اليهود والصهيونية، كل صباح مساء، ولم يتمكن هؤلاء الزعماء، أن يمنعوا العدوان من أنفسهم عمن آواهم ونصرهم. فإذا كان اليهود وهم في حالتهم الحاضرة، لم تتمكن الحكومة البريطانية المحسنة إليهم من منع شرورهم، وهي التي تملك من وسائل القوة ما لا يملكه العرب، فكيف يستطيع العرب أن يأمنوا من اليهود في الحال والاستقبال؟ أعتقد بأن فخامتكم توافقون معي، بعد استعراض هذا الموقف، على أن العرب الذين هم اليوم أكثرية في بلادهم لا يمكنهم أن يطمئنوا لدخول اليهود بينهم، ولا يمكنهم أن يطمئنوا لمستقبل البلاد المجاورة لهم..».
مبادئ لا تتبدل
وما أشبه الليلة بالبارحة.
بل ما أشبه اليوم بما قبل أكثر من خمسين عاماً.
فقد طلب الرئيس الأمريكي ترومان قبيل قيام دولة إسرائيل بعدة شهور من الملك عبد العزيز أن يتدخل ليوقف العدوان الفلسطيني على الأقلية اليهودية في فلسطين في حرب اعتبرها «أهلية» وهدد ترومان بأن الملك عبد العزيز إن لم يفعل فإن ذلك قد يؤثر سلباً على استخراج النفط السعودي من قبل الشركات الأمريكية.
إنه الطلب نفسه الذي يطلبه الآن الرئيس بوش مع اختلاف المسميات، فقد أصبحت العمليات الاستشهادية للشعب الفلسطيني «حرباً إرهابية» وأصبح الشعب الفلسطيني في وطنه يهدد أمن اسرائيل وأن من حق اسرائيل أن تبيد الشعب الفلسطيني دفاعاً عن النفس.
وكان رد الملك عبد العزيز بتاريخ 10/2/1948م على هذه الجرأة في الباطل واضحاً وحاسماً وقوياً تمثل في المبادئ والنقاط التالية:
« وليست الحرب القائمة في فلسطين حرباً أهلية كما ذكرتم، ولكنها حرب بين العرب أصحابها الشرعيين وبين غزاة الصهيونيين الطارئين عليها من الآفاق على كره من أهلها وبمساعدة الدول التي تدعي حب السلام العالمي وهي تتلاعب به».
وما قرار التقسيم الذي كان لحكومتكم الوزر الأكبر في دفع الدول إلى تأييده إلا قرار جائر رفضته دول العرب وشعوبهم من البداية، ورفضته معهم الدول التي آثرت أن تؤيد الحق، فليس العرب مسؤولين عن النتائج الوخيمة التي قد أنذروا بها الهيئة من قبل.
إني لا أشفق على بني جنسي الذين يستشهدون في المعارك الدامية بفلسطين دفاعاً عن وطنهم ضد الغزاة الصهيونيين وغيرهم ممن قد يأتون لمناصرتهم، فإننا معشر العرب نعد ذلك شرفاً يغبطون عليه، ولن يتراجعوا، ولن نتراجع عن تأييدهم بكل ما أوتينا من قوة، حتى نبدد أحلام الصهيونيين وأطماعهم في بلادنا إلى الأبد.
ما ذكرتم من المصالح الاقتصادية التي تربط بلدينا. فاعلموا أنها أهون في نظرنا من أن نبيع بها شبراً واحداً من أرض فلسطين العربية لمجرمي اليهود. ويشهد الله أنني قادر على أن أعتبر آبار البترول كأن لم تكن. فهي نعمة ادخرها الله للعرب حتى أظهرها لهم في الزمن الأخير فلا والله تكون نقمة عليهم أبداً.
ولقد صرحت للعالم مراراً أنني مستعد أن أسير أنا وأولادي جميعا لنقاتل في سبيل فلسطين حتى نمنع قيام دولة اليهود فيها أو نموت. فكيف يعقل بعد هذا أن يكون الكسب المادي من البترول أعز من نفسي ونفوس أولادي. إن القرآن الذي به نؤمن ، وعليه نحيا، وعليه نموت، قد لعن اليهود كما لعنتهم التوراة والإنجيل. وهو يوجب علينا أن نمنع اعتداءهم على هذه الأرض المقدسة بأرواحنا وأموالنا، لا يقبل منا في ذلك صرفاً ولا عدلاً».
«إذا كانت العقيدة الدينية عند المسيحيين الأمريكيين وغيرهم قد بلغت من الرقة والضعف بحيث تسوغ لهم تمكين اليهود من تدنيس الأرض المقدسة، فإن قلوبنا ما تزال عامرة بالإيمان الذي يحول بيننا وبين ذاك».
كان الملك عبد العزيز طيب الله ثراه في تلك الفترة يحاول إقناع الولايات المتحدة الأمريكية بالكف عن تشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين .. يحاول إقناعهم بمنطق التاريخ ومنطق الحق ومنطق العدل، ومنطق القيم التي يرفعون شعاراتها.. إنه ليس من الإنسانية ولا من الاخاء والمساواة العمل على إخلاء وطن من سكانه وإحلال آخرين مكانهم ثم يقيمون دولة على أنقاضهم.
لم يكل الملك عبد العزيز ولم يمل من ترديد هذه الفكرة على كل الرؤساء الأمريكان الذين عاصرهم وخاصة روزفلت وترومان لعل صوته يلقى صدى ولعل كلمته تعيها آذان صاغية وعقول واعية، وكان في كل ما كتب يشهد الله ويشهد أمته على ما يفعل، وقد فعل كل ما يستطيع.
واليوم يكمل رسالته من بعده أبناؤه البررة، وما رحلة الأمير عبد الله بن عبد العزيز الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكية إلا من أجل فلسطين وما سواها، وكأن رسالة الملك عبد العزيز يتردد صداها إلى اليوم، وكأن 50 عاماً لم تمر على رحيله حزيناً على ضياع فلسطين من أيدي المسلمين.
لقد مضى 50 عاماً على استمرار أبناء الملك عبد العزيز في الالتزام بسياسة الوجه الواحد.
رحم الله عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود وأثابه عما قدم لأمته خير الجزاء.
*****
ولقد صرحت للعالم مراراً أنني مستعد أن أسير أنا وأولادي جميعا لنقاتل في سبيل فلسطين حتى نمنع قيام دولة اليهود فيها أو نموت. فكيف يعقل بعد هذا أن يكون الكسب المادي من البترول أعز من نفسي ونفوس أولادي. إن القرآن الذي به نؤمن ، وعليه نحيا، وعليه نموت، قد لعن اليهود كما لعنتهم التوراة والإنجيل. وهو يوجب علينا أن نمنع اعتداءهم على هذه الأرض المقدسة بأرواحنا وأموالنا، لا يقبل منا في ذلك صرفاً ولا عدلاً».

عبد العزيز آل سعود

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved