من المحزن أن نرى بعضاً من المثقفين والكتَّاب ممن نهل من الثقافة الغربية لا ينطلق في كتابته وطرحه إلا من وجهة النظر الغربية، وكأنه صدى لها! ويتخذ الغربيين مثله الأعلى يأخذ عنهم كل شيء يستشهد بأقوالهم وأفعالهم، ويهمل تاريخه المشرف وحضارته العريقة وتراثه المجيد رغم ما اتسم به من الدقة والعمق، وما امتاز به من أصالة خصبة، وما زخر به من الشواهد والمعاني الجديرة بالنشر، ولكنه لا يريد هذا التاريخ ويحكم عليه حكمه على كل بالٍ لا يستحق النظر!! فيقطع الصلة بالماضي كله، ولا يعجبه منه إلا ما وقعت عليه عين الغربي، دون أن يبذل أي جهد في استخراج كنوز حضارته بيديه واستثمارها في حاضره ومستقبله.
لا شك أن الغرب سبقنا كثيراً في الجوانب التقنية والتنظيمية ولا شك انه يقوم في كثير من أموره على أسس علمية وتجربة طويلة، ولا ضير علينا ان نستفيد من أدواته ووسائله وخبراته، بل هو من الأمور المندوب إليها، فالحكمة ضالة المؤمن، ولكن العيب والخطأ ان نلغي ثقافتنا وتراثنا وتاريخنا ونذوب في الشخصية الغربية.
وهذا الدكتور زكي نجيب محمود واحد من كثرة من المثقفين العرب «الذين فتحت عيونهم طوال أعمارهم على فكر أوروبي، حتى سبقت إلى أوهامهم الظنون، بأن أوروبا هي العالم كله، من مبتدئه إلى منتهاه، وبأن الفكر الأوروبي هو وحده الفكر الإنساني دون سواه» فكان الفكر الأوروبي هو محور دراسته ومدار عمله بعد ذلك، ولم تكن عنده صورة متكاملة عن التراث العربي، فلما أدرك النقص في جانبه الثقافي عزم على اكمال هذا النقص بالغوص في بحر الثقافة العربية، وخلص إلى ان ردودنا على العوامل الحضارية الجديد لابد ان تجيء «ردوداً متميزة بالطابع الشخصي الأصيل، الذي لا نحاكي به أحداً، وهي أصالة لا تتوفر لنا، إلا عن طريق امتلائنا بروح تراثنا، بحيث نحافظ على الموقف الذوقي الخاص، الذي عرف به أسلافنا، ويعني «أن نحافظ على طرائق الحكم على الأشياء والمواقف، حكماً أخلاقياً أو حكماً إجمالياً، لا نراعي فيه إلا وجهة النظر المأثورة عن تاريخنا الماضي». فإذا انتهت تجربة أحد المفكرين العرب إلى هذه النتيجة أليس من الحكمة الاتعاظ بها، والاستفادة منها؟.
والكتابة قبل ذلك وبعده مسؤولية عظيمة مهما كان شكلها شعراً أو نثراً أو قصة أو رواية، وتزداد مسؤولية الكاتب إذا كان ممن يكتب في مطبوعة يومية أو أسبوعية أو شهرية، لما لذلك من تأثير على الرأي العام وتوجيهه، فالكاتب المهزوم نفسياً يلقي بظلال الهزيمة على قرائه وأبناء مجتمعه، والكتابة الهزيلة الضعيفة تنشىء رأياً عاماً هزيلاً ضعيفاً، ونحن في هذا العصر أحوج ما نكون إلى الكاتب القوي الذي يبني رأياً قوياً يستشرف مستقبلاً زاهراً على أساس من عقيدة صافية وتراث أصيل وتاريخ مجيد.
إنها دعوة إلى كل من تحمل مسؤولية الكتابة وأمانة الكلمة أن يعيد النظر فيما يقرأ ويكتب وينشر، فتحديات المستقبل تفرض على الكاتب أن يراعي سمات مجتمعه الإسلامي وخصائصه التي يمتاز بها، ويحافظ على هويته وشخصيته قبل أن تذوب وتنمحي، ويعيش منقطعاً بلا ماضٍ يفخر به ولا مستقبل يأمل فيه.
|