في كتابه القيّم «البيان والتبيين» أورد الجاحظ بعض عظات لقمان عليه السلام لابنه قال: «يا بني: ازحم العلماء بركبتيك، ولا تجادلهم فيمقتوك، وخذ من الدنيا بلاغك، وأنفق فضول كسبك لآخرتك، ولا ترفض الدنيا كل الرفض، فتكون عيالاً، وعلى أعناق الرجال كلاً، وصم يوما تكسر شهوتك، وكن كالأب لليتيم، وكالزوج للأرملة، ولا تحابِ القريب، ولا تجالس السفيه، ولا تخالط ذا الوجهين البتة».
وفي هذه العبارات المكثفة قوام منهج تربوي كامل، يبدأ بالمزاحمة على طلب العلم، واحترام أربابه، والتأدب في حضرتهم، وتجنب جدالهم بغير طائل، وإن كان الحوار بغية الفهم والتثبت أمراً مطلوباً لا يخل بالاحترام الواجب للمعلم.
ثم يأتي مبدأ القناعة من هذه الدنيا بما يسد حاجتك أيها الإنسان، والحث على رأب أصداع المجتمع الأَولى فالأَولى، بفائض الرزق الذي أفاض به الله جل وعلا عليك، وفي هذا يقول الحديث الشريف: «هل لك إلا ما أكلت فأفنيت، ولبست فأبليت وتصدقت فأبقيت؟!»، ولا ينكر أحد أثر هذا التكافل الاجتماعي في سيادة روح المحبة والأمان بين الناس.
ويستدرك الحكيم ما قد يلتبس على الابن بفعل الضعف الإنساني الذي يغري العزائم بالهبوط والقعود عن طلب الشيء إذا لم ير فيه نفعاً عاجلاً، إلا أن يرسخ الإيمان العزيمة فيتأكد الإنسان أن الآخرة خير وأبقى، وأن متاع الدنيا قليل. وينفر النبي الحكيم ابنه والبشر جميعاً من بشاعة الصورة حين يخلد الإنسان إلى الكسل وترك العمل، فيصبح عالة على غيره، تثقل بهمه كواهلهم، لا سيما وهم يعلمون أنه قادر بنفسه أن يعمل، ويعيش من كده وتعبه حلالاً طيباً لا شبهة فيه ولا منة. ثم هو يعلي غرائز النشء فينصح الشباب بالصيام لتسكين الشهوة الفطرية المجبول عليها الإنسان، وقد قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء». والباءة : النفقة، والوجاء: الوقاية.
وتبلغ المشاعر الإنسانية أوجها حين يدعو إلى رعاية اليتيم رعاية الوالد للولد، وعون الأرامل على استئناف رحلة الحياة، وتربية الأيتام بعد رحيل العائل، وهذه الرحمة المرفرفة بجناحيها من العباد على العباد تجعل المجتمع متحاباً متراحماً، وتقضي على حزازات النفوس، وتؤلف القلوب حتى يصبح «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضاً» كما جاء في الحديث الشريف، وما أحوجنا إلى هذه الصورة الآن أكثر!.ثم يختتم لقمان عليه السلام وصيته بالنواهي الثلاثة: الجور محاباة للقربى أو الصداقة، ومخالطة السفهاء وقد حذر الحديث الشريف من الجليس السوء، ويشتد التحذير من مخالطة المنافق الذي يستطيع أن يغير كل ساعة جلده، وأن يخفي وجهه خلف قناع في كل وقت وحين، وقد تستهوي الإنسان هذه المخالطة لأن المنافق يطريك ويبالغ في الثناء عليك إذا كان عندك، فإذا التفت عنك أعلن عن وجه آخر، يراك على نحو مخالف تماماً لذاك الوجه البديع الذي رآك عليه قبلاً، وصحبة هذا الصنف وبال على صاحبه وأي وبال.
وإذا كانت هذه عظات النبي الحكيم لقمان لابنه قبل آلاف السنين، فإنها تأتي في الإسلام نصاً وروحاً، مما يؤكد أن الأديان كلها واحد، من رب واحد وإن تدرج وتتابع في التبليغ عن ربهم الأنبياء والرسل، لذلك نجدها عظات لا تزال ندية ثرية، صالحة لكل زمان ومكان.
|