«1»
في الطائرة دنا بقربي امرؤ وعلى مقعده حطّ، وأخذ يتمتم بكلام كأنه مواء قط، فحدقت في وجهه فإذا الدمع قد خطّ على وجهه أحافير ما عهدت مثلها قط. قلت: مالك يا هذا؟ قال: أيها الرديف الحصيف، إني أعانك الله امرؤ من أهل الريف، لم أتخط سهول قريتي إلا لبلدتنا المتاخمة، ولكن قبيل شهر امتطيت سيارتي الجاثمة، ودلفت مدلهماً لعاصمتكم الآثمة، فحللت لدى أناس أخلاط، فيهم عرب وعجم وإنجليز، وفارقت كل صاحب وعزيز، وافتقدت أكل المرقوق والمطازيز، ورحلات البرِّ والتغريز؛ فقالت عجلات الطائرة زيز زيز.. فهب مذعوراً، وقال ما هذا الصوت، قلت: هي عجلات وليس موتاً، وطائرة «مكرٍ مفرٍ مقبل مدبر معا» فلا تُراع، قال: ويحك يا «كمخة» !! اللهم لا تهبها الشطر الثاني من الوصف «كجلمود صخر حطَّه السيل من عل».. هل تود أن تفتك بنا بفألك الخبيث، وتزعمون أن أبناء المدائن فطنون، وأنا لا أرى إلا أفهاماً خاملة وبغالاً هاملة.
وبعد أن همت الطائرة بالإقلاع، طالبتنا المضيفة بربط الأحزمة، فقال: أتعقلونا على الارائك كما تعقل الابل، وأنتن غاديات رائحات كأنكن في حفل، فإذا حدث مكروه للطائرة فهل ننجو بهذا الحبل.. ثم بادرني: ما شأنك وهذا الصمت؟ قلت لا أدري أصواب ما تقول أم جهالة، قال: بل كلكم يا أهل المدن أجلاف مناكيد، قلت: لماذا يا أخا الريف، قال: أتيت مدينتكم ومعي عربتي ومالي، وها أنا أخرج مدقعا إلا من ثيابي وسروالي، قلت: فما الذي حلَّ بك،
قال حكايتي طويلة ذات غصة، لوكنت مرتزقاً لألفت منها قصة. ولكنني أنف ذو أدب، ثم صاح بشعر المِهزَمي الكاتب العباسي الفقير:
يا مولج الليل في النهار صبراً على الذل والصفار كم من حمار على حمار ومن أديب بلا حمار |
قلت: قد ولى زمن الحمير، فما شأنك بها؟ قال: لم ينته زمنهم وأنت أمامي، قلت مهلاً ، فقد غرك حلمي يا رويعي النعاج.
قال: لأن لا حلم لديكم ولا كرم ولا نخوة، إنما دأبكم يا أهل المدن التدليس والشؤم، فشعاركم كما قال النيسابوري عبدالله بن أحمد:
إلبس ثياباً وكن حمارا فإنما تكرم الثيابُ |
كريمكم مقتر وشجاعكم رعديد، لو رأى مشاجرة قبالة داره ما أسعفته شجاعته للفصل فيها، كما قال المثل «تفتك الهوشة وأبونا يتحزم». قلت: فأين علم أهل المدن وحكمتهم وخبرتهم، قال:
إنفاق علم في زمان جهالة ترجو؟ ودهر عمٍ وسخف مطبق كن ساعيا ومصافعاً ومشاكساً تنل الرغائب في الزمان وتنفق لا تلق أشباه الحمير بحكمة موه عليهم ما قدرت ومخرق |
قلت: أرى الحمير في كل قصيدة ترويها، فما سرها؟ قال: من كثرة ما رأيتها في مدينتكم؟ قلت: هل بها حمير حقاً؟ قال: أنت مثل أم حفصة، قلت: ومن هي أم حفصة؟
قال: إبحث في صِحَاح الجوهري يا «دلخ». وعندما رجعت للصحاح فيما بعد، وجدت أن «أم حفصة» هي الدجاجة، فكدت من «الدلاخة» أنقنق.. وسكتنا له دخل بحماره..يا سادة يا كرام، لحكاية القروي ما بعدها وأحاديث تترى، والهذر طويل مازال في أوله، فتلك أحاديث من أصابه الوله، وأصبح عقله من المدينة على بله..
|