Thursday 9th May,200210815العددالخميس 26 ,صفر 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

نرجسية الثقافة: محاورات التفاضل بين الأمم 2 - 4 نرجسية الثقافة: محاورات التفاضل بين الأمم 2 - 4

لم يكن خطاب التفاضل، في مجمله وكثير من أجزائه، معرفياً بقدر ما كان إيديلوجيا، نلحظ هذا لدى الداعين للتفاضل، ولدى الداعين للتسوية. فالتفاضل من حيث هو منطق غير عقلاني لبناء تراتب مطلق للأمم والأجناس والمجتمعات ينطلق من دوافع إيديلوجية واضحة، ولهذا لا يرضى كل قبيل ان تساوى أمته بغيرها فضلاً عن انه تقتسم معه فضلا، أمته هي الأولى مطلقا وغيرها تبع لها وتال عليها. والتسوية من حيث هي رد فعل رافض للتهميش ومنكر للمركزة ومناقض للتراتب المستمد مما يتجاوز العقل الى الخرافة، هي الأخرى متكأ لإنشاء تفاضل تتقدم فيه ذاتها ولا تتأخر وتعلو ولا تدنو، لتغدو الدعوة للتسوية بدورها منطقا غير عقلاني لبناء تعادل مستحيل بين الأمم والأجناس والمجتمعات.إنها، تداوليا، ذريعة لاكتساب موقع، وتبرير علاقة هي، هنا، حق يراد به باطل. وإذا كان أبوحيان التوحيدي، في محاورته مع الوزير، رفض التفاضل لأن الأمم والأجناس والمجتمعات تتشارك في الفضل والنقص وفي الخير والشر وفي الكمال والتقصير، فإن ابن قتيبة الدينوري يرفض التسوية قائلا:« لو كان الناس كلهم سواء في أمور الدنيا ليس لأحد فضل إلا بأمر الآخرة، لم يكن في الدنيا شريف ولا مشروف ولا فاضل ولا مفضول، فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتاكم كريم فأكرموه» وقوله صلى الله عليه وسلم:«أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم». وقوله صلى الله عليه وسلم في قيس بن عاصم:«هذا سيد الوبر» وكانت العرب تقول: لا يزال الناس بخير ما تباينوا فإذا تساووا هلكوا. تقول: لا يزالون بخير ما كان فيهم أشراف وأخيار، فإذا جملوا كلهم جملة واحدة هلكوا. وإذا ذمت العرب قوماً قالوا: سواسية كأسنان الحمار. وكيف يستوي الناس في فضائلهم والرجل الواحد لا تستوي في نفسه أعضاؤه ولا تتكافأ مفاصله، ولكن لبعضها الفضل على بعض، وللرأس الفضل على جميع البدن بالعقل والحواس الخمس. وقالوا: القلب أمير الجسد. ومن الأعضاء خادمة، ومنها مخدومة».
ابن قتيبة، هنا، يدعو الى التفاضل، ويطالب بالتمايز بين الناس، وهو يستند الى النقل والعقل في التشريع لما يدعو اليه والمحاجة عليه والانتصار له. ويجترح أدلته النقلية من مصدرين: أولهما: ديني ويتمثل في بعض أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم التي تضمنت صفات ذات امتياز وقيمة على مستوى الأخلاق الاجتماعية: (كريم)، أو على مستوى التراتب الاجتماعي: (سيد)، أو على مستوى الوسم والشكل: (ذوي الهيئات). والثاني: تراثي ثقافي ويتمثل في ما قالت العرب ذمّاً للتساوي وامتداحا للتباين والاختلاف. أما أدلته العقلية فهي أمثلة تتنزل من القضية موضع الاستدلال، منزلة المشبه به من المشبه والمثل من مضربه، وذلك بلفت النظرالى مستويين: مستوى الواقع الاجتماعي الذي نشاهد فيه التباين بين الشريف والمشروف والفاضل والمفضول، ومستوى أعضاء الجسم الحي التي تتفاوت في الفضل والقيمة ويبدو بعضها خادما وبعضها مخدوما. رفْض ابن قتيبة للتسوية يتضمن إحلال التفاوت محل التساوي، والاختلاف محل الاتفاق، والتنوع محل التجانس، والتغاير محل التشاكل. وهولا يقف عند تقرير ذلك كحقيقة تكتسب مشروعيتها من الواقع بل يصبغها بقيمة من خلال ايرادها مورد التوافق مع الدين والانسجام مع الموروث العربي وجعلها علامة على الخير وصفة للمدح، إنها إذن امتياز فيما هي واقع معاش وعادة معتادة. وهذا يعني ان ابن قتيبة يشبه أبا حيان التوحيدي في النظر الى مسألة التفاضل بين الناس؛ فالناس متفاضلون حتماً عندهما، لكن قراءة كل في سياقه تظهر لنا ان التشابه بينهما لا يعدو ان يكون شكليا، فالمضمون بينهما مختلف، ومقصدهما متباين. ويمكن ان نوضح اختلافهما فيما يلي:
1 أبوحيان يقرر التفاضل بين الناس بوصفه واقعاً لا يسوغ إنكاره. أما ابن قتيبة فإن واقعية التفاضل لديه جزء من حملة الدعوة اليه وتحبيبه والإقناع له.
2 أبوحيان يقصد الى الغاء الجدل حول مسألة التفاضل واجتثاثها، إذ ليس لها مبرر بين الأمم ما دامت الفضائل والنقائص بصفتها الإلهية والبشرية، الطباعية والصناعية مشتركة و«مفاضة على جميع الخلق مفضوضة بين كلهم» وابن قتيبة يقصد الى شرعنة هذا الجدل وتبريره عقلا ونقلاً.
3 كلاهما يبتدىء من تقرير التفاضل والاختلاف في الأمة الواحدة والمجتمع الواحد «فلكل أمة فضائل ورذائل» وفي كل أمة«الشريف والمشروف والفاضل والمفضول» ليبني عليه التفاضل بين الأمم؛ فيغدو، هذا الأخير، دون مسوغ عند أبي حيان، في حين يرتبه ابن قتيبة على التفاضل في الأمة الواحدة ويسوّغه به ويبنيه عليه.
4 يبقى التفاضل عند أبي حيان نسبياً وليس مطلقا، وهو أيضا تنازع في الأجزاء وليس في الكل؛ والنتيجة: انه لا يوجد في الأمم فاضل فضلاً مطلقا، ولا ناقص نقصاً لا براءة منه، تماما كما هو حال الفرد من البشر الذي تغدو حيازته للفضل التام والكمال المطلق أو الشر التام والنقص المطلق خروجا به عن الصفة البشرية. أما ابن قتيبة فهو إطلاقي، وكلي، والحقيقة لديه ذات صفة حدّية، ولذلك يرى التفاضل مطلقا وكليا وليس نسبيا أو جزئيا؛ والنتيجة: إلحاحه على «تفضيل العرب» على الأمم.
5 وإذا كان أبوحيان تبعاً لما رأينا أعلاه يقصد الى المعرفة، ويتوسل أدوات القراءة المجافية للعاطفة والرامية الى معان شاملة وذات مدى يتجاوز الى الزمن في وعائه الانساني، والحضارة في عصارتها الكونية حيث لا تملك أمة ان تستأثر بها، استهلاكا أو انتاجيا، دون غيرها فإن ابن قتيبة، وتبعاً أيضا لما رأيناه أعلاه، إيديلوجي لا معرفي، ولهذا كان يستخدم النقل والعقل ولا يخدمهما، ويخضعهما لشهوته ولا يخضع لهما، ومن ثم جاءت قراءته ضد الزمن لأنها لا تستجيب للمعنى الشمولي للحضارة حيث الانسانية في الانسان لا في جنسه أو إثنيته، وقيمته فيما يملكه وليس فيما لا فضل أو لا ذنب له فيه.
وهكذا يجتمع أبوحيان وابن قتيبة في تقرير حقيقة الاختلاف وتأكيد معنى التفاضل، وهكذا يفترقان في نظرهما الى تلك الحقيقة من الزاوية الإيديلوجية/ المعرفية. ولا ريب ان النتيجة التي يغدو الرجلان، في موقفيهما، علامتين عليها وبابين الى الطريقين المتشعبين عنها، ذات عمق دلالي في استبصار المعاني الانسانية والكونية والوظيفية والموقفية والاصطلاحية للثقافة والحضارة والعلم والقيم والأخلاق والعلاقات البشرية، في داخل المجتمع الواحد وفيما بين المجتمعات والأجناس والأمم والأعراق والثقافات واللغات المختلفة. إذ يصلنا أحد البابين المشرعين على التاريخ، بالحوار والتفاعل والتثاقف والإخصاب المتبادل والاجتماع على كرامة (الانسان) بألف لام الجنس، فيما ندخل من الباب الثاني الى ساحة الكلام بالأنياب والأظافر، واللغة العنصرية التي تستبدل الصدام بالحوار، والتقابل بالتفاعل، والتقاطع والتعادي بالتعاون والتواصل، والكراهية بالاحترام، ويكون الاجتماع على مهانة (الانسان) بألف لام الجنس.
إن تمجيد الذات ومركزتها معرفياً هو شكل من أشكال الوعي الناقص بالذات وبالآخر، وهو صيغة طفولية وبدائية من صيغ الوعي لا يتجاوزها الفرد كماهو مقرر سيكولوجيا إلا حين ينتقل الى مرحلة الرشد والنضج فكرياً ووجدانياً وجسمياً، ولا تتجاوزها قياساً المجتمعات والأمم الا حين تنتقل الى مرحلة من تكامل الرؤية والقدرة على موضعتها. هنا يتحول الوعي بالذات، لدى الفرد ولدى المجتمع والأمة، من تمجيد الذات الى القدرة على نقدها، ومن الحس الانعزالي الفردي الأناني الى حس المشاركة والتفاعل اجتماعيا وانسانيا، ومن (أنا) فقط الى (أنا) و(الآخرين) الى (النحن).

د. صالح زيَّاد

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved