Thursday 9th May,200210815العددالخميس 26 ,صفر 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

أجنحة الكلام أجنحة الكلام
المقايضة.. والرهان!
ريمة الخميس

الذين أرخوا للحضارات القديمة، يرون - معظمهم - أن تلك الحضارات قد نشأت حول الأنهار، حيث كان النهر يوفر أول أسباب الاستقرار والتماسك في كيان اجتماعي يصبح قادراً على بلورة هوية خاصة، تشكلها العادات والتقاليد والمعتقدات والممارسات السلوكية الغالبة لكل كيان اجتماعي محدد (كأعمال الزراعة وما صحبها من أعياد للربيع وللحصاد في المجتمعات الزراعية مثل مصر وما بين النهرين، أو أعمال الكر والإغارة وما صحبها من احتفالات للنصر في المجتمعات المحاربة مثل روما)، الأمر الذي أكسب النتاج الحضاري لكل جماعة هوية من هويتها الاجتماعية.
لا يعنينا من هذا كله إلا تلك الفرضية الأولية في نشأة الحضارات حول الأنهار، لنرى أن الحضارة العربية القديمة قد قدمت الدحض المسبق للنظرية، حيث لا نهر في الجزيرة العربية، وحيث الجماعات محدودة الأعداد، دائمة التنقل والارتحال؛ بل لعلنا من زاوية أخرى نلحظ أن هناك فارقاً مروعاً في القيمة - إن صح التعبير - بين ما أنتجته بعض حضارات الأنهار وما انتجته حضارة الصحراء، فالأولى غلب في نتاجها التصوير والتشكيل (رسوم الجدران والمجسمات) في محاولة لشغل وقت الفراغ بالإمساك بمفردات واقع يومي معاش وتقليده، والأخيرة غلب في نتاجها النص، المحفوظ الذي صانته الرواية، والمدون الذي تناقلته المتون، في استغلال أمثل للفراغ بالتأمل والتفكير والتجريب، ومن ثم كان الشعر والفلسفة والعلوم، واختفى أو كاد التشكيل والتصوير.
«الفراغ» إذن عامل أهم في نشأة الحضارات، سواء كان في المجتمعات المستقرة حول الأنهار أو المتنقلة خلف الكلأ والماء في متاهات الصحراء.
هنا يقفز الذهن على رغم منه من حضارة المكان إلى حضارة الزمن، حضارة هذا القرن التي تحمل صفات العصرية والحديثة والإنسانية والعالمية وما يرادفها، والتي تتوغل في المكان شاء أم أبى على مايبدو تحت لواء «العولمة» الثقافية، حضارة تخلت في النهر عن روعة حورياته، وفي البحر عن عذوبة سيرينياته، وفي الصحراء عن ليل العاشقين كليل امرئ القيس، وعن رؤى الشعر التي بلغت أفق الميتافيزيقا عند عبقري كالمتنبي، وعن تأملات الفارابي وابن رشد وعن دأب ابن سينا وابن منظور والأصفهاني، حضارة الآلة لا الإنسان باختصار.
لا بأس، فنحن نعيش في عالم، أعني في زمن، انداحت فيه كل الحدود الجغرافية، وسلمت مفاتيح البوابات كلها طواعية للأقوى، تغيرت أفلاك الأوطان وانخرط أهلها في الفلك الواحد للكون، فما الذي يمكن أن تسفر عنه من رصيد خاص له هويته - في حسابات التاريخ لمنجز كل أمة مبادلة الآلة بالنهر وتأمل ليل الصحراء؟
في زمن قديم لم يكن قد عرف وسيلة للانتقال بخلاف الناقة والحمير، كان «المثقف» يجوب الأرض من مشرقها إلى مغربها على ظهر حمار بحثاً عن كتاب أو رغبة في توثيق رواية، وفي عصر الثقافة العالمية التي انتصر فيها العلم أصبح المثقف - في كل بلاد الدنيا - يتلقى في مقعده الوثير قوائم وأخبار أشهر المصارعين ونجوم الكرة وأحدث الأغنيات العالمية، ويرى الحفلات والمباريات حية على الهواء دون أن يحرك في جلسته ساقاً عن ساق، ومن ثم يجد عناء ليس بعده عناء في أن يجهد نفسه في مطالعة اسم كتاب جديد، فقط العنوان دون طموح إلى تخطيه لاسم مؤلفه!. في تلك الأزمنة القديمة التي وجهت وقت الفراغ كله للتأمل كان النتاج الحضاري هو المعطى الإجمالي للناس جميعاً ومن ثم كان الفلاسفة علماء للطبيعة والرياضيات في ذات الوقت، ولم يتبق لهم من وقت الفراغ هذا وقت بالغ الضيق للهو والاستمتاع، وفي زمن التكنولوجيا وجه الناس كل وقت الفراغ للمتعة واللهو، ولم يعد يتبقى منه سانحة عابرة للتأمل وارهاق النفس، ومن ثم فالمعطى الحضاري لن يكون إلا نتاج فرد يخرج عن السياق، وليس نتاج سياق عام للجمع.
* أراهن على أن بعض الأمم لن يتبقى منها إلا اسم قديم في صفحات صفراء للتاريخ..!

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved