«مذاهب الحسن» كتاب لفت انتباهي عنوانه، ثم شدني أكثر بما تضمنته مقدمته، فكانت قراءته ثم الكتابة عنه هاجساً تلقائياً. يشير العنوان الجانبي للكتاب إلى أنه «قراءة معجمية تاريخية للفنون العربية»، وهو من تأليف الباحث اللبناني شربل داغر الذي سبق أن عرفنا له مؤلفات حول الشعر العربي وغيره. أما الذي شدني في المقدمة فهو أن المؤلف جعل من قضية المنهج وما قد يتضمنه من تحيز في قراءة الثقافة عموماً قضية مركزية له، إذ إنه يعترض على الطريقة التي قرأ بها تاريخ الفنون العربية. وكان من الطبيعي ألا يشدني ذلك إلى الكتابة فحسب بل أن يجعلها متعة لا بد منها. لكن هاجساً آخر ما لبث أن وقف لي بالمرصاد. لقد استوقفني هاجس تلقائي آخر يسائلني عن معنى هذا الاختيار: هل هذا وقت الحديث عن الحسن ومذاهبه وفلسفته؟ هل يمكن الحديث عن مذاهب الجمال في زمن تتبجح فيه مذاهب القبح في كل مكان، لاسيما في شوارع فلسطين؟ من لديه الاستعداد للتأمل في جماليات الفنون، بينما البشر يذبحون والأبنية تهدم والأحلام تنتهك؟ أجل كيف يمكنك الكتابة عن مذاهب الحسن في أزمنة القبح الشاروني وما يلقاه من دعم وتواطؤ دولي؟
ذلك هم من هموم الكتابة والنشر لم أشر إليه في مقالة الأسبوع قبل الماضي، لكنه يفرض نفسه الآن. كيف يمكن لنا أن نتطرق إلى قضايا قد تكون هامة في وقت ما، لكنها هامشية، أو تبدو كذلك، في وقت آخر؟ ولعل الكتابة الصحفية تحديداً هي الأكثر عرضة للمساءلة في هذا الشأن، فهي تنشر في صحيفة سيارة تعج بالأخبار وبالهم اليومي المصاحب. فكيف يمكن لهذا المنشور أن يسترخي في مقالة رومانسية، أو يتمدد في تأملات بعيدة الصلة بالحياة اليومية؟ بل كيف يمكن له أن يجتهد في مناقشة فلسفية أو تحليل علمي لظاهرة ما؟ هل يحتمل المنشور اليومي كل ذلك؟ أعرف أن هناك من لا يهمه الأمر، لاسيما من هم ملتزمون بكتابة منتظمة، وأن القضية بالنسبة للكثيرين هي قضية العثور على موضوع جديد وكفى. كما أعرف أيضاً أن هناك من يهمه الأمر سواء كان كاتباً أم قارئاً وتزعجه مقالات لا صلة لها بالحدث اليومي أو الهم السياسي العام، معتبراً ما خرج عن ذلك شطحات ليست الصحافة مكانها.
يهمني أن أثير القضية هنا لأنني مقدم على تجربة الكتابة المنتظمة، وأعلم يقيناً أن الكتابة ستغريني بل وتضطرني أحياناً إلى الخروج عما هو مطلوب ظرفياً في «شطحات» من النوع المشار إليه. ولعلي بهذا أقارب قضية قديمة طرحها عدد من الفلاسفة والنقاد القدامى، وفي ثقافات مختلفة، وما زالوا يطرحونها وإن بصور مغايرة. تلك هي قضية الفرق بين الشعر والتاريخ. ويحضرني هنا ما ذكره الناقد والشاعر الإنجليزي السير فيليب سدني في أوائل القرن السادس عشر، حين دافع عن الشعر ضد التهمة الأفلاطونية بأنه فن الكذب، قائلاً إنه، أي الشعر، يهتم بالدائم أو الجوهري، أو أنه يتحدث عما ينبغي أن يكون، لا ما هو كائن أو متغير، وأنه من ثم لا يكذب. بينما في حالة الكتابة التاريخية يكون الموضوع خبرياً متغيراً، مما يجعلها كتابة أدنى في الأهمية من الشعر، بمعنى أن التاريخ قابل للكذب. وبالطبع فإن الناقد الإنجليزي لم يعرف من التاريخ ما سبق أن عرفه ابن خلدون الذي سبق سدني بأقل من قرن، أي تلك الرؤية النافذة التي علمتنا أن بأمكان الكتابة التاريخية أن لا تقل «صدقاً» عن الشعر في تلمسها للدلالات العميقة للحياة البشرية (وهذا بالطبع لا يلغي احتمالات الكذب عند المؤرخين، تماماً مثلما هو الحال مع الشعر، الذي قيل إن أعذبه أكذبه).
فكيف يمكننا التعامل إذاً مع «مذاهب الحسن» وأمثالها من الطروحات غير الظرفية أو الخارجة عن الشأن اليومي؟ هل نؤجلها إلى أن تنجلي الأمور لننشغل بالهم العام، وهو هم مصيري بطبيعة الحال؟ أم أن ثمة تصوراً آخر للأمر؟ يبدو لي أن التصور الآخر مطروح أمامنا في تلك الرؤية التي عبر عنها الفيلسوف العربي والناقد الإنجليزي حول ما هو دائم وما هو متغير. بمعنى أن قيمة الكتابة ليست في موضوعها، أو ليست في موضوعها فحسب، وإنما في كيفية تناولها لذلك الموضوع.
هذا اعتبار. الاعتبار الآخر هو أنه من غير المتصور أو الطبيعي أن تنحصر الرؤية لدى الجميع باتجاه واحد وبشكل متصل.. فالقضايا الكبرى للأمة تظل هي المهيمنة، لكنها أولاً قضايا متعددة، ثم إنه يمكن التطرق إليها من زوايا متعددة. ولو أخذنا الوضع في الأرض المحتلة لتبين أن البعد التحليلي اليومي للأحداث واحد من تلك الزوايا، يجاوره بعد آخر هو البعد التحليلي على المستوى التاريخي للأحداث نفسها، أي تاريخ القضية وما يمكن استجلاؤه من ذلك من دلالات أو مؤشرات. وليس ذلك كل شيء، فالصراع مع العدو الإسرائيلي ليس صراعاً محصوراً في اليومي والمتغير، وإنما هو صراع حضاري يمتد من الحجر في الشارع أو القنبلة المتفجرة إلى الكتاب والقصيدة والاكتشاف العلمي. بمعنى أن مذاهب الصراع كثيرة، وتشمل فيما تشمل «مذاهب الحسن»، مهما تطاول القبح الشاروني واحتد ضرره.
لذا كله يبدو لي أنه لا شطحات ولا انغلاق عن الصراع اليومي حين نقرأ كتاباً مثل كتاب داغر، أو ننشغل في تحليل نص ما أو في إجراء تجربة علمية ما. المهم هو في كيفية الانشغال وتوجهاته. فمن الانشغال بالجمالي يمكننا محاربة شارون وأضرابه، لأننا بالجمالي نعلن تحضرنا ونؤكده، مثلما نفعل ذلك في المعركة سواء تسلحت بالحجر أو بالدبابة.
سعد البازعي |