يقول شاعر العيون الأمير خالد الفيصل في قصيدته (الله أكبر كيف يجرحن العيون):
يوم روّح لي نظر عينه بهون
فزله قلبي وصفق وارتعد
ويقول الشاعر الرقيق الشهير جرير:
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
وهن أضعف خلق الله إنسانا
وعلى بعد الشقة الزمنية بين الشاعرين لأكثر من ألف عام، يظل للعيون ذلك السحر وهذا التأثير البالغ، البادي لا في اعترافات الشعر فحسب، بل وفي أحاسيس كل البشر وأحاديث الصباح والمساء.
فالعيون هي الملهمة التي تشعل ومضتها الأولى حرائق الهوى في القلوب، تماما كما تفعل الشرارة الكهربية الأولى في وقود السيارة حين تشعله فتدور المحركات. وكم أبحر الشعراد في تلك العيون وسافروا، وكم أدلجوا وأمسوا وأصبحوا، ومما يدل على أن للعيون دور البطولة في كل قصص الهوى، أنهم يقولون «والأذن تعشق قبل العين أحياناً»، فالعبارة وإن دلت على حالة الاستهواء التي قد تكتنف سامع الصوت في حالة خاصة، إنما تحكي عن الاستثناء مؤكدة أن الأصل في الهوى يقع بالنظرة، وأن العين هي الفاعل الأصيل في كل الأحوال، فحتى حالة الاستهواء بالسماع قد تنتهي فوراً إذا ما وقعت العين على صاحب الصوت!!
كما أن الدليل على اتساع دائرة التأثير السحري للعيون إلى حد الإلهام أن الإبداع المتعلق بها يلقى الآذان مغرقة في الإصغاء، والقلوب مسرفة في الاستمتاع باجترار الذكريات، فالكل يجد فيها ذكراه، وقد يعود البعض يرتق تلك الخيوط السحرية التي نسجها القدر ذات لحظة أبدية.
والجمهور يلقى في كل إبداع الهمت به العيون ذوقاً يشجيه، وصوتاً يطربه فشاعر الأمس قد وصف العيون بمحدودية ثم وصف فعلها بأنها صرعته، ثم بالغ في الأثر بأنه صَرعٌ حقيقي جعله خامداً لا يتحرك، مما يوحي للجمهور أنها عين قاتلة على نحو الحقيقة وان حياة بطل الرواية قد انتهت بالفعل بعد قليل من فتح الستار، وقد وظف الشاعر العلاقة بين الإنسان عموما وإنسان العين وفعلها توظيفاً مفاجئاً مندهشاً بين رهافة الفاعل وشدة الفعل.
وشاعر اليوم وهو بشهادة الجميع خبير بالعيون قد عبر عن حالة واقعية أقرب إلى تجارب الناس على اختلاف مواقعهم الفكرية والاجتماعية فعلي حين لم يصف العيون تاركا للجمهور استنباطها من واقع فعلها، فإنه يطرح السؤال: مَنْ مِنَ البشر يمكن الا يفز قلبه وتزداد ضرباته ويحمر وجههه وترتعش أذناه وتصطك أجزاؤه، إذا ما رمته العيون الناعسة برسالة مكثفة عجلى، يلفها الحياء ويدفعها الهوى؟! نعم فللعيون لغة ما أجمل مفرداتها، وما أبلغ عباراتها، وما أصدق عواطف فيها لا تخطئ، وما أسرع التوصيل والتواصل في لغة العيون!
هذه الساحرة.. سوداء.. خضراء.. زرقاء.. أيما كان لونها هي شاشة عرض بألوان الطيف لكل ما يدور في داخل الإنسان، فيها الهم...
وفيها بريق الفراغ من ذلك الهم، فيها الغم.. وفيها غسيلُ لتباريح السنين، فيها الفزع.. وفيها شآبيب الرحمة والطمأنينة، فيها الهوى والجوى، الحرب والسلام، فيها جنان الرحمة وسعير القسوة، فيها كل نقيض ونقيض.
لكن أهم ما فيها نظرة بالهون يفز لها القلب ويرتعد.. ففي هذا ثراء الحياة الوثابة فيما بعد النظرة، على خلاف جرير الذي انصرع وانقطع عن الحياة، وجاءت مبالغاته لحساب تكثيف شدة الأثر، وفي رأيي أن الحياة الوثابة هي مطلب الراغبين في الحياة.. من صناع الحياة!
|