ما أكثر الكتابات التي كتبت عن منطقة الخليج؛ سواء كانت كتباً تاريخية محلية، أو مذكرات سياسية كتبها في الغالب مسؤولون أجانب، أو دراسات علمية. وليس هذا بغريب. ذلك أن أهمية الخليج الاستراتيجية والاقتصادية قبل اكتشاف النفط في ربوعه وبعد اكتشافه كانت وما زالت من العظمة بحيث لا تحتاج إلى إعطاء أدلة عليها. وتاريخ التنافس الأوروبي الاستعماري؛ وبخاصة البرتغالي والهولندي والفرنسي والبريطاني، لبسط النفوذ عليه تاريخ يعرفه دارسو التاريخ العربي الحديث، بالذات، كل المعرفة. ولقد نالت بريطانيا قصب السبق في الهيمنة على أجزاء مهمَّة فيه خلال القرن التاسع عشر الميلادي وأكثر القرن العشرين وأصبح بعد ذلك تاريخاً يتألم كل فرد من أبناء الخليج من تأمُّل صفحاته الموجعة للضمائر الحيَّة. ثم زالت تلك الهيمنة ليحل فيه وجود من نوع آخر لجهة خلقت واقعاً عالمياً جديداً لا تستطيع قوة شرقية أو غربية أن تخالف لها رأياً إلا التي ابتلاها ربها بها، فأمسكت بأطراف الخيوط المؤثرة عليها؛ ألا وهي قوة الصهيونية الرهيبة.
وهذا الكتاب، الذي ألفته الأخت الكرمية ميّ الخليفة، يتناول تاريخ نفوذ بريطانيا في منطقة الخليج، وقد أتمَّت عنوانه موضحة ما يهدف إليه مضمونه بقوله: قصة السيطرة البريطانية على الخليج العربي. على أن هذه القصة ركَّزت على سيرة أربعة من رجال بريطانيا الذين كانت لهم أدوار مهمة في الخليج؛ وهم لويس بيلي، واللورد كرزون، وبيرسي كوكس، والميجر كلايف ديلي، كما جاء تفصيلها؛ وهي من البحرين الحبيبة، عن بلادها أكثر من غيرها.
وقبل أن أبدأ بعرض ما توصلت إليه قراءة هذا الكتاب أنقل إلى القارئ الكريم ما ذكرته الباحثة الكريمة على ظهر غلافه عن الكلمة الأولى من عنوانه، فقد قالت:
إن سبز آباد «أي البقعة الخضراء» تسمية فارسية أطلقها المقيم البريطاني فيلكس جونز على دار المقيمية البريطانية في بوشهر. ومن تلك الدار كانت تدار أحداث الخليج بساحليه الفارسي والعربي.
والدولة البهية كما هو معروف لدى الكثيرين وصف كان يطلق على بريطانيا، التي كانت في وقت من الأوقات امبراطورية لا تغيب الشمس عن ممتلكاتها.
وقد نشرت الكتاب المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عمَّان سنة 1998م. ويتكون من 629 صفحة مشتملة على إهداء مختصر هو :«إلى من يقبلون الوجوه المتعددة للحقيقة»، فتمهيد من صفحتين، فتقديم من ست صفحات، ثم تبدأ الأبواب الأربعة، التي تكون لبَّ الكتاب. وأولها عن بيلي وما كتبه، وثانيها عن كرزون وما قام به من أعمال إدارية وسياسية، وثالثها عن كوكس وسيرته، ورابعها عن ديلي وما قام به في البحرين بشكل خاص. وقد ألحقت بالبابين الأول والرابع عدداً من الوثائق.
ولقد ظهر الكتاب بلغة جيدة، وعرض لا بأس به، وهو بما اشتمل عليه يسهم في إثراء المعرفة التاريخية عن المنطقة التي تناولها. فشكر الله للباحثة الكريمة جهدها، وأكثر من مثيلاتها.
وكان مما ذكرته الباحثة الكريمة في تمهيدها قولها:
«ومع اكتشاف عدم تطابق الأقوال وبُعد التاريخ المروي عن الواقع الموثَّق تأتي هذه المحاولة تعني ما كتبته لقراءة ملف القرن العشرين السياسي الذي انتهى باستنتاجات جديدة تنفي الروايات الخيالية وتنكر الأبطال الوهميين. ورغم أن الصورة الخيالية قد تخالف المرسوم سابقا إلا أننا لا نملك خياراً آخر أمام تلك المدونات الكثيرة الراصدة لأحداث تلك الفترة. ومن ذلك المصدر الموثق الوحيد «أكرر الوحيد» المتوافر للدارس: أي التقارير البريطانية، نتابع ما جرى في البحرين قبل سبعين عاما، ونحاول بقراءة متأنية تجنب الوقوع في تفسيرات خاطئة؛ خاصة أن تلك التقارير كتبت آنذاك لتخدم السلطة الأجنبية وتعطيها المبررات المطلوبة في ممارستها الظالمة ضد الحاكم والمواطنين».
ومع أن الباحثة الكريمة محقة في تبيان أهمية التقارير البريطانية في الكتابة عن تاريخ منطقة الخليج في الفترة المتناولة بالبحث فإن قولها: إن تلك التقارير هي المصدر الموثق الوحيد «مع تكرارها لكلمة الوحيد» المتوافر للدارس قول ليس من المسلم بصحته. بل إن الكاتبة نفسها ذكرت أن التقارير البريطانية كتبت «لتخدم السلطة الأجنبية الخ. ولو قُبِل ما قالته عن الهدف من كتابة هذه التقارير فهل مع هذا القول نثق بها إلى درجة نجعلها المصدر الموثق الوحيد؟ ولو رجعت الباحثة الكريمة إلى تعليقات الدكتورين عبدالرحمن الشيخ وعويضة الجهني، اللذين ترجما رحلة بيلي إلى الرياض لأدركت أن ثقتها بما كتبه ذلك البريطاني لم يُبنَ بعضها على أساس صحيح.
على أن التقارير؛ بريطانية أو غير بريطانية، يمكن أن تكون محتوياتها صحيحة أو غير صحيحة. فهي تخضع، أحياناً، لانطباعات كاتبها أو اعتماده على مخبر ليس دقيق الملاحظة أو لا يتورع في إعطاء معلومات منافية للواقع لهدف معين. وقد يجد المرء في التقارير البريطانية نفسها حديثين عن واقعة واحدة لمسؤولين بريطانيين وحديث أحدهما لا يتفق مع حديث الآخر؛ بل ربما ناقضه.
والتقارير البريطانية ليست المصدر الوحيد المتوافر لدارس تاريخ منطقة الخليج في تلك الفترة؛ وإن كانت ذات أهمية كبرى لتاريخ البحرين خصوصاً خلال الربع الأول من القرن العشرين. لكن الباحثة الكريمة تحدثت في الباب الأول عن بيلي. ومن المعلوم أن عمله في هذه المنطقة كان في القرن التاسع عشر. وفي هذا القرن كان لوثائق الدولة العثمانية؛ سواء في تركيا نفسها أو في العراق ومصر، أهميتها الكبيرة. وللوثائق الفارسية أهميتها أيضاً؛ سواء في القرن التاسع عشر أو في القرن العشرين. وإضافة إلى ذلك فإن للوثائق المحلية بما فيها من صكوك وللتواريخ المكتوبة، والروايات الشفهية المتوارثة، والشعر؛ فصيحه وعاميه، فائدة وأهمية، ولا شك أن الباحث سيفيد كثيراً من الوثائق الأمريكية؛ وبخاصة في الكتابة عن تاريخ البحرين من بداية القرن العشرين.
ومع ذلك المأخذ على الباحثة الكريمة فإنها قد وفقت في اختتام تمهيدها بقولها : «لا بد أن أضيف بأن ما اعتقدت اليوم أنه أقرب إلى الحقيقة قد تنفيه وثيقة أخرى نكتشفها في الغد. وبذلك يبقى باب الاجتهاد والبحث العلمي والاستنتاج مفتوحاً لكل راغب في إكمال أجزاء مجهولة من تلك الصورة». أي صورة واقع المنطقة المتحدث عنها.
وأعطت الكاتبة الكريمة في تقديمها لمحة موجزة جداً عن مسيرة الوجود البريطاني في الخليج من بدايات القرن السابع عشر إلى الربع الأول من القرن العشرين. ولأنها لم ترجع إلى مصادر يمكن أن تفيدها فيما كتبت فقد اشتملت اللمحة التي أوردتها على أمور تحتاج إلى إعادة نظر. من ذلك ذكرها «ص14» أن بريطانيا وقعت أولى اتفاقياتها مع سلطان مسقط عام 1798م «1213ه» بهدف الحدِّ من نشاط الفرنسيين في عمان. ومن المعلوم أن تاريخ الاتفاقية يتزامن مع تاريخ دخول نابليون مصر. ولذلك فإن ما ذكرته الباحثة الكريمة بشأن الاتفاقية ربما كان هدفاً جوهرياً بالنسبة لبريطانيا. لكن ألا يحتمل، أيضاً، أن هناك هدفاً آخر لها. فمن المعلوم أن الدولة السعودية قد وصلت حينذاك إلى مياه الخليج؛ إذ انتزعت منطقة الأحساء والقطيف وما يتبعهما من بني خالد، وأدخلت تحت حكمها شبه جزيرة قطر، وهاجمت بلدة الكويت، التي كانت قد انتقلت إليها الوكالة البريطانية من البصرة بين عامي 1793و 1795م، وشاركت هذه الوكالة بالدفاع عنها.
وإضافة إلى ذلك كان القائد السعودي، إبراهيم بن عفيصان، قد وصل إلى البريمي عام 1795م وبنى فيها قصراً قاعدة لقواته. وكانت الاتفاقية متزامنة، أيضا، مع تحالف القواسم مع آل سعود. ومن المعروف أن القواسم كانوا قوة بحرية مرهوبة الجانب، وأن نشاطهم لم يقتصر على الاشتباك مع قوات سلطان عمان؛ بل هاجموا سفينتين بريطانيتين في الخليج عامي 1797 و 1798م. أفلا يكون نجاح السعوديين في المنطقة وتحالف القواسم معهم عاملاً مهماً في توقيع البريطانيين اتفاقية مع السلطان العماني؟ وإذا كان هذا صحيحاً بالنسبة لبريطانيا فإن من المرجح وربما من المؤكد أنه كان السبب الجوهري وراء عقد السلطان الاتفاقية مع بريطانيا.
ومما ذكرته الباحثة الكريمة في تقديمها «ص14» أنه «في عام 1818م نزلت القوات البريطانية إلى ساحل الإمارات. وبالتعاون مع حليفها سلطان مسقط تم تدمير الأساطيل العربية الباقية وقطع الذراع البحري للوجود الوهابي في قلب الجزيرة».
وهذا الكلام يحتاج إلى تدقيق. فالثابت تاريخياً أن البريطانيين هاجموا رأس الخيمة عام 1809م «1224ه»، لكنهم لم يبقوا فيها إلا يوماً واحدا، ثم غادروها. على أن نشاط القواسم ازداد ووصلت سفنهم في تحديها للبريطانيين إلى مسافة لا تبعد أكثر من ستين ميلاً عن بمبي نفسها. وتزامن هذا التحدي مع قضاء والي مصر العثماني، محمد علي باشا، على الدولة السعودية عام 1233/1818م.
فكان أن أرسل البريطانيون حملة بحرية قوية ضد رأس الخيمة عام 1819م وصمد القواسم شهرين، لكن تدمير قاعدتهم أجبرهم على عقد اتفاقية مع بريطانيا في العام التالي.
|