Friday 3rd May,200210809العددالجمعة 20 ,صفر 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

تطور القاعدة الفقهية والاقتصادية للأوقاف تطور القاعدة الفقهية والاقتصادية للأوقاف
سليمان بن صالح الطفيل

لقد أثبتت الدراسات والبحوث العلمية وكذلك التجربة العملية خلال العصور الإسلامية الماضية الدور الاقتصادي للأوقاف كمصدر لتنمية المجتمعات الإسلامية واعتباره مصدراً من أهم مصادر قوة المجتمع الإسلامي ودعم إمكانياته البشرية والمادية.
وتكمن الأهمية الاقتصادية للأوقاف في أنها تستهدف بالدرجة الأولى تنمية الأفراد المنتفعين وتلبية احتياجاتهم الروحية والعقلية والجسمية، سواء للأجيال المنتفعة في الحاضر أو للأجيال في المستقبل، مع العناية بالانتفاع من هذه الأجيال في عملية التنمية.
ومع أن الأوقاف الإسلامية تعرضت إلى صور مختلفة من الاعتداء والإهمال إلا انها في الغالب ضمنت ان تظل مستغلة فيما هيئت له لا تباع ولا توهب ولا تورث ولا تتلف بشهوة عارضة، وإنما بقيت منفعتها تنتقل من جيل إلى جيل حتى يومنا هذا، مما يؤكد صفة الديمومة التي امتازت بها الأوقاف كأصل استثماري مستديم مثل وقف الأراضي والمباني العقارية. فالوقف ما هو إلا وسيلة للمحافظة على دوام أصل العين وبقائها لينتفع منها جيل بعد جيل.
إن الذي يرصد تاريخ الأوقاف سيجد انها بمثابة المصدر الاقتصادي الدائم للأمة الإسلامية والذي أثر إيجابيا في توسع العمران وقيام المؤسسات الخيرية ودعم المراكز الدعوية والعلمية، وكان إلى جانب ذلك، مصدرا دائما للدخل الذي يدعم التنمية في جميع مجالاتها الاقتصادية والبشرية والاجتماعية.
والتطورات الاقتصادية التاريخية كان لها تأثير كبير في توسع مفهوم الوقف ليشمل الوقف الثابت من عقارات مبنية وأراضٍ زراعية وآبار ارتوازية وقناطر وجسور، والوقف المنقول من وقف المعدات والآلات والحيوانات والحلي والنقود. كما أسهمت التطورات الاقتصادية في تنوع الأوقاف إلى وقف خيري عام ووقف خيري خاص ووقف أهلي (ذرّي) ثم إلى وقف مشترك، وذلك بدمج الأوقاف الخيرية مع الأوقاف الأهلية لتصبح ثروة وكتلة وقفية واحدة، يمكن من خلال إقامة مشروعات تنموية ضخمة تستطيع الصمود والمنافسة امام المشروعات الاقتصادية الأخرى. كذلك لحقت التطورات الاقتصادية أغراض الوقف، فإذا كان الهدف الأساسي من فكرة الوقف هو الحصول على الصدقة الجارية في الحياة الآخرة فإن الأهداف الفرعية للوقف تتمثل في دعم التنمية الاجتماعية والثقافية والصحية للجهات المنتفعة إضافة إلى التنمية الروحية. ومع تطور المجتمع الإسلامي وتعدد وظائفه التنموية، أصبحت الحاجة إلى تفعيل الدور الاقتصادي للوقف من أوليات اهتمامه.
من جانب آخر، تنوعت أساليب وطرق الاستثمار الوقفي على مر العصور الإسلامية. فهناك أساليب تقليدية وأساليب معاصرة. أما الأساليب التقليدية لاستثمار الأوقاف فهي تلك الطرق التي درج نظّار الوقف على استخدامها، منذ أن ظهرت فكرته، والتي لا تتعدى اجارة الأبنية والحوانيت والأراضي الموقوفة وزراعة ما يصلح للزراعة وتعهد بساتين الوقف بالسقيا والرعاية، وبيع غلاته وثمراته، واستبدال أعيانه عند الحاجة أو المصلحة الراجحة، ثم تطورت شيئا قليلاً نظراً لحاجة بعض البلدان الإسلامية قديما إلى ما يعرف بنظام الإحكار والاجارتين والمرصد والخلو والاجارة الطويلة وقد ظهرت هذه الأساليب التقليدية الأخيرة بصفة خاصة في عصر الدولة الفاطمية في مصر والدولة العثمانية في تركيا.
أما الأساليب المعاصرة لاستثمار الوقف فيمكن ايجازها في صيغة المضاربة والسلم وصكوك الاجارة والمقارضة المتناقصة والصكوك العقارية والمزارعة أو المخابرة والاستثمار في أسهم أو حصص رأسمال الشركات وصناديق الحصص أو المحافظ الاستثمارية. ومع عدم الاستقرار الفقهي تجاه بعض هذه الصيغ إلا انها في الغالب أسهمت في توفير صيغ وقفية مناسبة للحياة المعاصرة ساهمت في تمويل المشروعات المنتجة في كثير من الدول الإسلامية اليوم.
لقد اختلفت مظاهر الاهتمام الاقتصادي بالوقف، تبعاً لاختلاف العصور والأقاليم الإسلامية، واختلاف المذاهب الفقهية واجتهادات علماء الإسلام. وقد كان لتلك الاجتهادات الفقهية تأثير واضح في توسع الأوقاف أو تقلصها، وانعكاسها على حركة نمو القاعدة الاقتصادية للأوقاف. مما يعني وجود العلاقة الوثيقة ما بين الفقه والاقتصاد، وتأثير كل منهما على الآخر، إلا انه من المقرر أن الأوقاف تعد النموذج الفعلي لتطبيق صور الاقتصاد الإسلامي، وهو الاقتصاد الذي لا يستغني بحال من الأحوال عن اجتهادات الفقهاء وآرائهم ومناقشاتهم المفيدة في مجال الأوقاف أو غيرها.
إن الفضل في تقعيد قواعد الأوقاف وتدوين شروطها ومسائلها، وتوضيح أحكامها ومراميها يعود بعد فضل الله تعالى إلى فقهاء القرن الثاني الهجري، إلا أن الأوقاف استوى سوقها وبسقت أغصانها في القرن الثالث الهجري وما بعده إلى القرون الأخيرة.. وأصبحت للأوقاف أبواب مستقلة في كتب الفقه.
إن من يستعرض النصوص الفقهية الكثيرة المتعلقة بالاقتصاد الإسلامي، يستوقفه ذلك الكم الهائل من الاجتهادات والتوصيات والأحكام الخاصة بعائدات الأوقاف وأوجه صرفها على أعمال الخير والبر والنفع العام للمجتمع، حيث اجتهد علماؤنا من مختلف المذاهب في توضيح الأسس الفقهية لمعنى الوقف وضوابطه وشروطه وحالاته، وما ينبغي أن يؤول إليه يعد الخراب أو القصور. بيد ان الغالب على النقاش الفقهي في موضوع استثمار أموال الوقف وطرق تنميتها في العصور المتأخرة هو التحفظ مع العلم أن آراء الفقهاء في الماضي قبل دعوى إغلاق باب الاجتهاد كانت تواكب التطورات والمفاهيم الاقتصادية في وقتها ولهذا ينادي العديد من المهتمين بالاقتصاد الإسلامي في الآونة الأخيرة، إلى ضرورة البحث والدراسة في القواعد الاقتصادية المنظمة للوقف ليأخذ دوره المتميز في دعم اقتصاديات المجتمعات الإسلامية وفسح المجال أمامه للانطلاق بدلا من الاختناق والتوسع بدلاً من الانحسار، خاصة وأن موضوع اقتصاديات للوقف مازال من المواضيع البكر،التي لم يستقر الرأي حول كثير من موضوعاته العديدة.
ولكون الوقف يغلب عليه الطابع الفقهي فإن التكييف الاقتصادي له ليس بالأمر السهل، نظراً لتشعب موضوعاته من جانب وكثرة الخلافات الفقهية حول هذه الموضوعات من جانب آخر. ولهذا يتطلب البحث في اقتصاديات الوقف الإلمام بمسائل فقه الوقف بالإضافة إلى المعرفة الاقتصادية.
ولعله من المفيد القول إنه مع وجود الأهمية الاقتصادية للوقف، إلا أن ذلك يجب ألا يبعدنا كثيراً عن الدور الذي يمكن ان تساهم به المؤسسات الاقتصادية الإسلامية الأخرى في عملية التنمية مثل مؤسسة الزكاة. كما ان هذا لا يعني عدم وجود أعمال تطوعية مشابهة للوقف لدى المجتمعات غير الإسلامية، فهناك نماذج قريبة من نظام الوقف وإن لم تسم بالاسم المتعارف عليه عند المسلمين وهو الوقف. فإن الأمم على اختلاف أديانها ومعتقداتها، تعرف أنواعاً من التصرفات لا تخرج في معناها عن معنى الوقف عند المسلمين، مثل صيغة الاستئمان والمؤسسة الخيرية وصيغة الجمعية إلا أن نظام الوقف يختلف عنها في كونه للبر والقربة، ولهذا ورد عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمته داراً ولا أرضاً تبرراً بحبسه، وإنما حبس أهل الإسلام.
وعلى أية حال فإنه بتتبع مراحل الاهتمام الاقتصادي بالوقف، نجد أنه مرّ بما يمكن تسميتها بالدورة الاقتصادية للوقف التي تعني تقلب الأوقاف بين فترات توسع وفترات انحسار، نتيجة لعوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. ومن أهم عوامل توسع الأوقاف، مرونة نظام الوقف، وتوسع الفتوحات الإسلامية، وانتشار الدين الإسلامي وتشجيع الحكام والسلاطين على الوقف، والإعفاء من الضرائب أحياناً، وتنويع الاستثمارات الوقفية. أما العوامل التي ساهمت في انحسار الأوقاف فمن ذلك، انتشار الحروب والقلاقل السياسية، وظهور الاستعمار الأجنبي وسقوط الخلافة الإسلامية، إضافة إلى فساد الأنظمة الإدارية والمالية لنظام الأوقاف وصدور قوانين بالغاء الوقف الأهلي وعدم وجود آلية عمل لنظام الأوقاف متفق عليها بين علماء الإسلام.
ونتيجة لحرص الكتابات التي تعالج موضوع التنمية في العقدين الماضيين على أهمية التفاعل والتكامل بين المبادرات الحكومية والأهلية وجمعها حول أهداف تنموية مشتركة، ظهرت أهمية الوقف كقطاع اقتصادي مكمل للقطاعات الاقتصادية الأخرى في المجتمعات الإسلامية. وأصبحت علاقة الوقف بالاقتصاد من الموضوعات التي جذبت اهتمام الاقتصاديين الإسلاميين المعاصرين والمسؤولين عن ادارة الأوقاف.
والمتابع لما يجري على الساحة الدولية في العالم الإسلامي خاصة منذ بداية القرن الخامس عشر الهجري، سيلاحظ الاهتمام المتنامي بقضايا الوقف والدعوة لإشراكه في عملية التنمية، لما له من آثار تنموية ملموسة (اقتصادية واجتماعية وثقافية.... الخ) ولم يقتصر الاهتمام على مستوى الأفراد وإنما أصبحت حكومات الدول الإسلامية متمثلة في وزارات الأوقاف تنشط بدور أكثر في تفعيل دور الوقف وجعله من أوليات اهتماماتها،وذلك مما يدل على أهمية الوقف في العملية التنموية ورغبة أكيدة في إعادة الاعتبار لهذه السنة الشرعية للنهوض بالمجتمع الإسلامي وتدعيم إمكانياته واستثمار موارده.

* أخصائي اقتصادي بوزارة المالية والاقتصاد الوطني

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved