يا رحيل.. يا منتهى الصدق في الحياة الكاذبة..، يا أجمل ما منحته الحياة..، يا أغلى ما سرقته الحياة..، بعدك فيها طاله التعب..، خانه العشم..، نفد من عتبه العتب..، واشتكى دمع عينيه الهدب..، هناك هو تصطفق أمواج الذكريات في خافقه، في كيانه هديرها يزلزل وجوده..، فيبحلق فيما لم يندرس رسمه من الخيال، طارحاً الأسئلة ذاتها: لماذا حين تلين الجمادات في يديه سرعان ما يرمي بها أرضا..؟ ولماذا حين تورق الأشجار يلقي بها في أحضان الجفاف فتموت من الجفاف..؟ ولماذا حين يقترب منه المأمول البعيد يبتعد عنه القريب.. فيخسر البعيد والقريب؟ ولماذا هو الرحيل جناحان في كيانه يخفقان يا رحيل..، يرفرفان في ناظريه..، زاده أرتال القهر..، صحبه أنصال الألم.. أما حيلته فمضاجعة أسئلة الرحيل..، وتوسد آلام الأماني يا رحيل..
حلمه الرحيل يا رحيل حيث النورس الوحيد يغرد على شواطىء السلوان..، يحلق كلما عانقت زرقة البحر أنوار مساءات المدينة.. فقد فقدت في ناظريه يا رحيل ذاتها المدينة، وغار في قيعان الخيانة منها الوفاء..، فماتت في ذاكرته أسماء شوارع المدينة..
الرحيل يا رحيل القدر..، فانتفاء الخيارات خيارا..، فهو لا يُطيق الوقوف على أطلال الأشياء، حيث هي في ناظريه مقابر بجوفها ترقد شواهد سرقة الإنسان من الإنسان..، دعي ذكرياتك تمنحه السماح للرحيل.. فهو لا يريد البقاء ليبحلق في أطلال ما كان ذات يوم في ناظريه المدينة..،
إنه لن يحوم حول حطام ما كان يا رحيل قبل التحطم السفينة..، فقدره الإبحار على متن وعثاء اليبابات..، يحث الخطى ارتفاعاً عن النزول الى الخطأ، رغم الفداحة..، رغم مساحات الحيرة وجروح الصمت وحروق التجمل والاصطبار.
يا رحيل دأب سطور الحقيقة تتجلى من براثن ما بين سطوره..، فتعانق منه العبرات العبارات.. فيعاود مطارحة أحزانه بطرح تساؤلاته: لماذا ولماذا ولماذا بعدك يا رحيل الجفاف، والسنين العجاف، والمواسم القاسيات، والمواقف القارسات، والزرع الموات..؟!
.. إليك هو أشواق البشر.. أحزانهم حزنه عليك. أما العزاء فالحياة الرحيل .. يا رحيل..!
|