قيل منذ القدم ان العرب امة شاعرة، وهذا القول لا ينفي الشاعرية عن غيرهم، لكنه يميزهم عن غيرهم بكثرته في الوسط العربي، وقد تكلمنا في دراسات سابقة عن الشعر والشعراء العرب منذ الجاهلية الى يومنا هذا، على ان الشعر عند العرب ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالأمية، فلم يجد العربي ما يعبر به غير الشعر، فالامم الاخرى كانت تعبر بالرسوم، والكتابة، والخطوط على معابدها وكهوفها، كنوع من العبادة عند قدماء المصريين، والهنود والرومان..وغيرهم، والموروث الشعري عند العرب مختلف كل الاختلاف، فهو ليس تعبيراً فقط عن حاجة ملحة في نفس الشاعر كوسيلة للتعبير الحر، او الموجه، لكنه غاية سامية يسعى اليها كل من أوتي الموهبة، ليجد الحظوة والتقدير من افراد القبيلة، لانه سيكون لسان حالها، وناطق حاضرها وسجل ماضيها، وكم وجدنا في التاريخ من شاعر حفظ فنون قومه وعلومهم، ومن مقومات الجغرافية الطبيعية، الشعر، والشواهد والادلة باقية الى يومنا هذا على الامكنة، من موارد المياه، والقرى، والمدن والبحر، وحتى قياسات الابعاد.
وكان اكثر من اهتم بذلك الشعراء الجاهليين، لارتباطهم بالارض ورسم معالمها الجغرافية، نظراً للحاجة الماسة الى ذلك. فتجد «ثاج والد هناء والعذيب والصمان ونجد ووادي الغضا،» وغيرها عند الجاهليين بأسمائهم الى اليوم، مالم يحدث التغيير، وقد كفانا الباحثون البحث والتدليل. ولان هذا المقال الذي نفتتح به هذه الزاوية في عودتها بعد الصيف، فهي لا تعرف البيات الشتوي، فبياتها صيفي ليس في جغرافية الشعر، او شعر الجغرافيا، لكنه مقدمة لشاعر وشاعرة، الشاعرة ورثت الشعر عن الشاعر، وبالتأكيد هناك رابطة دم ونسب بينهما، انها الشاعرة «الدكتورة، ثريا العريض» والدكتورة ثريا العريض تربت على عرش ابيها الشعري، وليس هذه قاعدة جامعة مانعة لكل من تسلسل من بيت شعر، لكنها ظاهرة معروفة من العصر الجاهلي، وكدليل على ذلك كعب بن زهير، وطرفة بن العبد وجدّه سعد بن مالك واخته الخرنق..وغيرهم الكثير واذا وجدنا سبباً للشعر والشعراء في ذلك الزمان، كما ذكرنا فإننا لن نبرر لهذا العصر الا بالهواية والممارسة الفعلية لهذا الموروث العربي العتيد، في زمان هبط مستوى الشعر وانصرف عنه القارى لغيره من الفنون القولية التي زاحمته في غمرة الاحداث الثقافية المتنوعة، في زمن القراءة والكتابة، ولا نزعم مع الزاعمين ان الشعر مات مع موت المؤلف، كما يلذ للبعض التحلي بهذه العبارة الباردة، برودة ليلة الشتاء الرطبة!! فكيف يموت فن واهله احياء، وهو تعبير من ضمن التعبيرات اليومية، ليس عند العرب فقط، ولكن في كل لغات العالم، حتى الميتة، منها، لكن نستطيع القول، ان الشعر في هذا الزمان اعتراه الفتور، ولم يعد مؤثراً في سامعه مثلما كان في العهود القديمة، وليس العيب في الشعر، لكن العيب في اهل الشعر «الشعراء» فكما حصل له الانحطاط في العصر الوسيط، ما بين القرن السادس الهجري والقرن الثالث عشر، لضعف لغة الشعر وعدم استقرار الحياة السياسية، كنوع من المن الثقافي، بيد ان الكثير من المتشاعرين في هذا الزمان دخلوا سوق الشعر بلا رأس مال، وتبرم المتلقي من سوء ما يتلقاه على حساب الجيد من الشعر، ذلك القول النابع من وجدان الشاعر، وستظل الكلمة الصادقة مؤثرة في متلقيها في كل زمان ومكان، مهما علا صوت وهبط الآخر.
والشاعرة ثريا من الشعراء الذين دخلوا ميدان الشعر بتجربة صادقة، ومعاناة وجدانية نابعة من الداخل، بلا تكلف ولا صنعة، كما دخل ابوها الشاعر المجيد ابراهيم العريض، وان استرسلت مع الشاعر ابراهيم العريض فلن يكون ذلك على حساب ابنته، الدكتورة، ثريا، لكن لي قصة مع ابراهيم العريض الذي تعرفت عليه قبل ثلاثين سنة، ولم اقابله وجهاً لوجه حتى الآن، وآخر اتصال بيننا قبل اسبوع، مهاتفة تليفونية، لكني عرفته عندما كنت في المرحلة الثانوية، وذلك عندما عثرت على مجموعة اعداد من صحيفة البحرين في حوزة صديق لم يكمل دراسته المتوسطة، لكنه من كبار المثقفين، يملك مكتبة ضخمة، فيها من نوادر الكتب والمجلات الشئ الكثير، وكان يعيرني منها، لكنه ألح عليّ في هذه المرة بأوراق مخطوطة بخط يده، فيها شعر للعريض، وقال انهم يسمونه «خيام القرن العشرين» وكنت مولعاً بالرباعيات، ولما قرأت العريض تأكد قربه من الخيام، في رومانسيته، لكنني استغربت ذلك السؤال من الرجل عندما سألني عن لغة الشاعر العربية، ثم اكد لي انه عاد الى البحرين لا يعرف من العربية شيئاً، وكانت الشكوك تراودني عن صحة تلك المعلومة بالرغم من ثقتي بصاحبي حتى قرأت حياة العريض، فهو المولود في الهند، من اب بحراني وام عراقية، سنة 1908م، ماتت امه وهو طفل، ودخل مدرسةانجليزية، وبعد ان انهى دراسته عاد الى البحرين، وتعلم العربية، ففاق أقرانه، وكانت ثقافته قد تأسست على الادب الانجليزي الرفيع، إبداعاً ونقداً.
|