Thursday 2nd May,200210808العددالخميس 19 ,صفر 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

قصة قصيرة قصة قصيرة
للكاتب البريطاني ليام أوفلاهيرتي
ترجمة: عامر الجهني/ الدمام
القناص

مع اختفاء ضوء شفق المغرب ودخول الليل لبست مدينة دبلن وشاح الظلام ما عدا ضوء القمر الخافت الذي يطل من بين الغيوم القطنية كما تبدو الذي يهبط على الشوارع وعلى مياه النهر الداكنة. وحول الساحات الأربع المحاصرة أصوات القصف لوابل غزير من طلقات المدافع الثقيلة تكاد تصم الآذان. هنا وهناك في أنحاء دبلن أصوات البنادق الرشاشة والبنادق الخفيفة تسكر هدوء المدينة. وكأنها كلاب تنبح في أحد الحقول البعيدة، لقد شن الجمهوريون والمطالبون بالاستقلال الحر حربا أهلية على بعضهما البعض.
بالقرب من جسر «اوكنيل» وعلى سطح إحدى البنايات جلس قناص جمهوري يراقب الشارع بحذر، وبجانبه بندقيته وتتدلى من على كتفيه نظارات عسكرية. كانت تعابير وجهه تنم على أنه طالب وتبدو على هيئته النحافة والتقشف وكأن عيناه كانت تشع بالتعصب. كانتا غائرتين ومتأملتين كعيني رجل تعود على مشاهدة الموت. كان يأكل شطيرة بنهم فهو لم يتناول شيئا منذ الصباح، وقد كان مسروراً بهذه الوجبة. بعد انتهائه من الأكل توقف عن التفكير لوهلة إلا من فكرة المخاطرة بتدخين سيجارة. فقد يرى أحد نار السيجارة في هذا الظلام المخيف وأعين العدو تترقب أية حركة. أخيرا قرر أخذ المخاطرة والقيام بالتدخين. وعند قيامه بوضع سيجارة في فمه ولحظة إشعاله عود ثقاب لم يحس إلا وبطلقة نارية تمر مسرعة من فوق رأسه. وبلمح البصر انبطح القناص أرضا من الخوف بعد أن لمح بطرف عينه نار البندقية التي أطلقت تلك الرصاصة، كانت من الطرف الآخر من الشارع. أخذ القناص يتدحرج منبطحا إلى أن أخذ مكانا آمنا خلف مدخنة. ثم رفع نفسه بعد ذلك ببطء يشوبه الحذر إلى أن أصبحت عيناه متساوية مع سطح العمارة المقابلة ولم يتمكن من رؤية شيء سوى ظلام المكان المنعكس على البناية المقابلة وزرقة السماء الداكنة جدا، لقد كان الشخص الآخر مختفيا بالأسفل.
وأثناء ذلك عبرت سيارة مصفحة الجسر، وتقدمت ببطء على طول الشارع ثم توقفت أمام المبنى من الجهة المقابلة وعلى بعد خمسين ياردة. وكان القناص يسمع الهدير الخافت لمحرك العربة المصفحة ومعها كان قلبه يخفق بشدة لقد كان عربة تابعة للعدو.
كان بوده أن يطلق عليها النار ولكنه أيقن أن هذا لن يجدي شيئا حيث إن الطلقات لن تخترق معدن ذلك الوحش الرمادي المصفح.
ومن زاوية أحد الشوارع الفرعية ظهرت سيدة كبيرة في السن ورأسها مغطى بشال صوفي وبدأت بالتحدث مع سائق العربة من خلال فتحة صغيرة على جانب المصفحة. وبدأت تشير إلى سطح العمارة التي يطل منها القناص لقد كانت عملية للعدو ومخبرة. بعد لحظات فتح باب العربة المصفحة وأطل رجل برأسه وكتفيه من تلك الفتحة ونظر باتجاه القناص رفع القناص بندقيته وأطلق النار. سقط رأس رجل العربة المصفحة متثاقلاً على حافة بابها، في هذه الأثناء أسرعت السيدة نحو الجهة الأخرى من الشارع، أطلق القناص النار مجددا فسقطت السيدة وهي تترنح على الأرض لتصبح جثة هامدة.
فجأة ومن السطح المقابل، سمع صوت طلق ناري، فوقعت بندقية القناص محدثة صوتا مسموعا يكاد يوقظ الأموات. حاول القناص أن يمسك بندقيته مرة أخرى ولكنه لم يستطع، لقد شلت ذراعه اليمنى.
«اللعنة، لقد أصبت» صرخ القناص وهو غاضب جداً، واستلقى على الأرض وزحف مجددا وراء المدخنة. أخذ يعاين إصابته مستخدما يده اليسرى، لم يكن يحس بألم ولكنه كان يشعر أن ذراعه مشلولة وكأنها مقطوعة. سحب بسرعة سكين من جيبه وفتحها بمساعدة حائط المدخنة ومزق كم قميصه. توجد فتحة صغيرة من جراء الطلقة النارية حيث دخلت منها الرصاصة إلى ذراعه ومن الجهة الأخرى لا توجد فتحة، لقد استقرت الرصاصة داخل عظم الذراع وحطمته. ربط ذراعه أسفل الجرح ليمنع النزيف وأطبق على أسنانه ليتحمل الألم. أخذ من قميصه ولاعة وأخذ يحرق مكان الجرح ليطهره وهو يتصبب عرقاً من شدة الألم. بعدها وضع قطناً على الجرح وربطه بيده وأسنانه.
بعد ذلك أسند ظهره على حائط المدخنة وأغمض عينيه. حاول جاهدا أن يتغلب على آلامه. وفي الشارع أسفل البناية كان كل شيء ساكنا. والعربة المصفحة تبتعد مسرعة نحو الجسر ورأس ويد رجل العربة تتدلى من نافذتها دون حراك، أما جثة السيدة فقد جثمت أسفل الشارع بالقرب من الرصيف المقابل. أخذ القناص يعتني بجرحه ويخطط للهرب من هذا المكان. يجب ألا يتواجد هنا عندما يأتي الصباح وهو مصاب على السطح. لكن العدو على السطح المقابل يراقبه وسيحبط خطة هروبه، ولا يوجد حل آخر سوى أن يقتله، لكنه لا يستطيع أن يستخدم البندقية، ولا يوجد سوى مسدس صغير. بعد ذلك جاءته خطة، خلع قبعته وعلقها على فوهة البندقية ورفعها من أعلى المدخنة ببطء شديد حتى يستطيع أن يراها من هو في الشارع المقابل. فجأة، وبردة فعل سريعة اخترقت رصاصة وسط القبعة. أنزل القناص البندقية إلى أسفل لتسقط القبعة من أعلى السطح إلى الشارع. ثم تمسك ببندقيته من الوسط وألقى بيده متدلية من فوق حافة السطح وكأنها يد ميت، بعد لحظات ترك البندقية لتسقط من يده إلى الشارع ثم أسقط بجسده على أرض السطح ساحبا يده معه. بعد ذلك زحف القناص مسرعا إلى الجهة اليسرى واقترب من حافة السطح ليرى ما إذا كانت خطته قد نجحت أم لا. لقد نجحت خطته، لقد رأى القناص الآخر القبعة والبندقية تسقطان إلى الشارع معتقدا بأنه قد قتل غريمه، وهو يقف الآن أمام صف من المداخن الصغيرة وسماء الغرب تعكس خيال رأسه بوضوح، ولكنه لا يستطيع أن يرى وجهه. ابتسم القناص الجمهوري لنجاح خطته ورفع مسدسه إلى حافة السطح حيث المسافة تبعد حوالي خمسين ياردة، ستكون العملية صعبة في هذا الضوء الخافت ويده اليمنى تؤلمه، وكأن الشياطين تأكلها. ركز القناص يده جيدا وهو يصوب بحذر نحو عدوه ويده ترتعش قليلاً من الرغبة والحماس. أطبق على شفتيه بشدة وأخذ نفسا عميقا من أنفه ثم أطلق النار. لقد ارتعش جسده اثر إطلاق النار وآلمته يده المصابة. بعد أن ذهب دخان البارود نظر القناص إلى البناية المقابلة وهو يصرخ فرحاً، لقد أصيب عدوه، لقد كان يترنح على حافة البناية ويحاول جاهدا أن يتماسك ويبقى واقفا على قدميه ولكنه بدأ يسقط ببطء إلى الأمام. سقطت البندقية من قبضته وارتطم جسمه بحافة البناية ليسقط إلى الأسفل ويرتطم جسده بمظلة إحدى المتاجر وتستقر جثته على أرض الشارع. شعر القناص بإحساس غريب وهو يراقب عدوه يسقط، لقد أحس بجمود حيث مات بداخله إحساس الحرب والثورة. أخذ يتصبب عرقا وأحس بضعف من جراء إصابته وطول صيامه عن الطعام في مثل هذا اليوم الصيفي الطويل. أصيب بالغثيان من منظر جثة عدوه الممزقة. بدأ يتمتم لنفسه ويشتم الحرب ونفسه والجميع نظر إلى المسدس الذي يحمله بيده ورماه بكل قوة إلى أبعد ما يمكن أن يرميه، ومع ارتطام المسدس بالأرض انطلقت رصاصة القناص
طائشة من نفس المسدس كادت أن تصيب رأسه. ولكنه عاد إلى وعيه من شدة الصدمة وتمالك أعصابه ومسحة الخوف تختفي من قلبه ووجهه وبدأ يضحك.
ترك القناص البناية وبدأ البحث عن قائده ليبلغه عن مهمته لهذه الليلة. لقد كان الهدوء يخيم على المكان ما عدا بعض الطلقات النارية على امتداد شارع أوكنيل، ولا يوجد خطر من المشي في الشارع الآن. التقط مسدسه من الأرض وضعه في جيبه ونزل إلى الشارع. عندما وصل القناص إلى الأسفل اعتراه شعور غريب بالفضول بإلقاء نظرة على جثة غريمه الذي قتله من لحظات. مشى إلى زاوية الشارع وأثناء ذلك اتجه سيل من الطلقات النارية من مدفع رشاش تجاهه ولكنه هرب منها وارتمى على وجهه بجانب جثة عدوه قبل أن يصاب. توقف إطلاق النار ثم رفع القناص رأسه ليرى جثة عدوه بجانبه. أدار الجثة ليرى وجه أخيه ميتاً.

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved