Thursday 2nd May,200210808العددالخميس 19 ,صفر 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

نرجسية الثقافة: محاورات التفاضل بين الأمم 1/4 نرجسية الثقافة: محاورات التفاضل بين الأمم 1/4
د. صالح زيَّاد

الحديث عن أفضلية أمة على أمة، وجنس على جنس، هو حديث يستصحب في بعض مستوياته جانباً عرقياً إثنيا، تغدو الأفضلية عبره بعداً عنصرياً ونكهة شوفينية. هنا يقطع سؤال الأفضلية مع الإنسانية، ومع العقل، ومع الدين، فالإنسانية، كقيمة، صفحة مشرعة للكتابة تنقشها الأمم بتجاورها وتعاقبها في وقت معاً، والتراتب محك للدخول إلى ميدان الصفة، إنه خارج الصفة لا داخلها. أما العقل، بوصفه آلة الفكرة ومحتواها، فإنه نتيجة لا يختصرها زمن ولا يمتلكها مكان، ان تكون عاقلا يعني ان تكون إنساناً، أي أنك تنظر عبر الكون، عبر التاريخ، عبر الكل شرط العقل، عندئذ، يصل المفرد بالمجموع، والخصوص بالعموم، والجزء بالكل. العقل ينمو ويغتني ويتطور فوق الاعراق وخارج ما يصطنعه كل منها من مركزية ذاته وهامشية سواه. أما الدين فلا جدال أنه للناس كافة، حين تحتكر الدين أمة أو شعب أو طبقة أو فئة يفقد دلالته الإنسانية، يفقد بالأحرى معناه بوصفه دينا، إنه يتحول إلى ايديلوجيا، وهو بالتالي يخضع لتلك الفئة او الطبقة أو الأمة وإن بدا أنها خاضعة له.
في معظم كتب تراثنا الأدبي الجامعة يواجهنا، بصيغة سردية أوحوارية، وضمنية او صريحة السؤال: أي الأمم أفضل؟!. وهناك صفحات تتفاوت طولا وقصرا واجتماعا وافتراقا،بهذا الصدد، لدى الجاحظ وابن قتيبة والمبرد وابن عبد ربه وأبي حيان التوحيدي والأصفهاني وغيرهم. ومع ان الخطاب يتشكل في هذه الصفحات من زاوية عربية إلا أن المرء إجمالاً لا يعدم المتعة القرائية التي يُزهقها في العادة ذلك الاستبداد العنيف في انطواء الكتابة على صوت مفرد يقمع غيره ولا يبيح له أن يوجد، فضلا عن أن يتنفس، بما يمنح الكتابة من الحوارية ما يبعث على إحساس التنوع والغنى والرّحابة في الرؤية وفي الأخلاق.
هذه الصفة في خطاب القدامى، تجاه سؤال الأفضلية بين الأمم، ليست، فقط، ملمحا شكليا، إنها جزء من الدلالة التي يصنعها السؤال، أو بمعنى أدق:التي تصنع السؤال. فالسؤال، هكذا، وعي بالتعدد والاختلاف، وإقرار ضمني بمكانته الأولية وليس الثانوية، إذ الأفضل ترتيب وجودي على المفضول، وكل تفضيل هو حساب لمقدار الفضل أي الزيادة وتمييز لصفتها، إنه مغايرة وتفاوت من جهة وإن حمل وحدة وتجانسا من جهة أخرى، كأنه لا سبيل إلى إدراك التفاوت والتغاير إلا على أرضية من التشارك والتلاقي،وبنفس القدر لا سبيل الى إدراك مدلول عملي للوحدة والتجانس فيما لا تفاوت ولا تغاير فيه. هنا يمكن ان نفهم لماذا يترامى معنى التفاضل الى المغالبة والتنافس، حيث تكتسب الحركة الإنسانية على مستوى الجسد وعلى مستوى الفكر جهدا لإحراز زيادة وإدراك تميز ووصول الى سبق، الآخر (مجموعا) أساس لتولد وقياس ما تحرزه الذات من زيادة وما تسبق به وتتميز، الزيادة والتميز والسبق من حيث هي صفات لما يفضل به فرد غيره أو أمة سواها لا يمكن ان تكون مطلقة إلا اذا علونا بذلك الفرد او تلك الأمة عن الكينونة البشرية والوجود الاجتماعي والإنساني. لكن السؤال: أي الأمم أفضل؟ يستفز كل من يتعاطى معه على نحو يوقظ انتماءه بوصفه كائناً إيديلوجياً، والى هذا، على ما يبدو، يهدف هذا السؤال. الإجابة، هنا، من زاوية معرفية خالصة تهدم السؤال من أساسه، لأنها تكشف عن مخبوئه الذي يفجر منطق العلاقات الحوارية بين الأمم ويذكي تصادمها. وبالرغم من تضمن تلك الكتابات على إجابات ذات منطق عقلاني، ووعي ديني، وحس إنساني، في التصدي للسؤال، إلا أن المساحة الأكبر والأعنف من وراء ذلك، كانت للجدل الذي يأبى فيه كل قبيل الدنية في جانبه، فيذهب إلى الحجاج والاستدلال على فضله في ذات الوقت الذي يسلب خصمه كل مزية ويغمطه كل حق. ويروي أبو حيان التوحيدي في الليلة السادسة من كتابه (الإمتاع والمؤانسة) سمره، كما هي عادته، مع الوزير، ويأتي، في معرض ذلك، أن الوزير قال: (وهذه (أي تفضيل أمة على أمة) مسألة من أمهات ما تدارأ الناس عليه وتدافعوا فيه؛ ولم يرجعوا منذ تناقلوا الكلام في هذا الباب الى صلح متين واتفاق ظاهر قال التوحيدي: فقلت: بالواجب ما وقع هذا، فإن الفارسي ليس في فطرته ولا عادته ولامنشئه أن يعترف بفضل العربي، ولا في جبلة العربي وديدنه أن يقر بفضل الفارسي، وكذلك الهندي والرومي والتركي والديلمي، وإذا وقف الأمر على هذا فلكل أمة فضائل ورذائل ولكل قوم محاسن ومساو، ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحلّها وعقدها كمال وتقصير، وهذا يقضي بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مفاضة على جميع الخلق، مفضوضة بين كلهم).
إن الحوار، هنا، يؤسس للتفاضل حتمية جينية إثنية ثقافية من جهة، ويؤسس له مداراً، نسبياً لا مطلقا، وجزئياً لا كلياً من جهة أخرى. فالفطرة والجبلة والعادة والمنشأ والديدن هي مسار تشكل ادعاء الفضل للذات وإنكاره على الآخر، إنها الخصوص الذي تكتسب به الذات ذاتيتها، وليس العموم الذي يماهيها في غيرها ويجمعها بسواها. وبالرغم من ان لهذا الخصوص وظيفته الثقافية الاجتماعية التي تتيح للمجتمع أن ينشأ وتفضي به الى التبلور وتسهم إسهاما جوهريا في إحالته من الشتات الى الاجتماع ومن التفرق الى الوحدة، فإن هذا الخصوص يمكن ان يتضخم تضخما مرضيا لا يحجب الذات عن رؤية غيرها بل يحجبها ايضا عن رؤية ذاتها، فيحدث التنفج والكبر، (والكبر بطر الحق وغمط الناس). أن تقدر على رؤية ذاتك يعني انك تقدر على رؤية غيرك، والذين لا يرون غيرهم لا يرون إلاوهم الذات الذي يعلن عن وجهه الحجري في صور من العصبية والتسلط والعسف والفاشية.. وهي مسامير نعش تلك الذات الواهمة الذي يرحل بها خارج التاريخ الحضاري والإنساني، وربما الى غير رجعة).
كلام أبي حيان، كما هو واضح، يُخرج التفاضل بين الأمم من الإيديلوجيا الى المعرفة، إنه ينفصل عن الفكرة ليراها من خارجها، فالانطواء في داخلها لا يتيح للرؤية سوى ثقوب ضيقة تحدد النظر وتتحكم فيه وتنزلق به الى نتيجة غير محايدة، وذلك مسلك ايديلوجي بامتياز.
الإيديلوجيا من حيث هي شكل غير علمي من التفكير، وبالتالي غير حيادي أو وصفي، يصنع خطابا متحيزا وخادعا بالضرورة، ولهذا يلحظ الاجتماعيون حاجة الظاهرة الايديلوجية دوماإلى خصم تسقط عليه كل الصورالسلبية في اتجاه معاكس لاتجاهها الى الذات بالتمجيد والأمثلة وإضفاء صورة مطلقة الإيجابية. أبو حيان يكسر طوق الإيديلوجيا فلا يرى الخير مطلقا في أمته والشر في سواها، والكمال لها والنقص لعدوها، والفضائل من صنعها والرذائل من غيرها، ذلك هو الظلم والحيف أخلاقيا، وهو الجهل والعمى معرفياً، وهو دوغمائية المنهج وحدية الذات المنغلقة في وعيها وفي حسها. هكذا تلامس إجابة أبي حيان وتر الوعي الأكثر استبصاراً للحضارة والتقدم والمعيشة والحركة الإنسانية، من حيث هي ناتج إنساني للتفاعل لا التقاطع، والتشارك لا التنابذ، والتحاور والتلاقي لا التفاصل وانغلاق كل أمة على ذاتها، وهي صفات تنتج عمليا عبر ترافقها مع أضدادها، وبالرغم من ذلك الترافق، وربما يحسن أن نقول بسببه، ولنتذكر هنا إشارة الوزير إلى أن التفاضل بين الأمم من أمهات ما تدارأ الناس عليه وتدافعوا فيه. كأن شعور أمة من الأمم بأفضليةٍ ما يحمّلها مسؤولية إنسانية وكونية، ويعلن وجودها الإنساني ويوجبه ويغذي إحساسها به فتعي معيتها وانفرادها، وفعلها وانفعالها، وأخذها وعطاءها، معاً وفي وقت واحد، لأن نتيجة الاستسلام لأحد الطرفين قاتلة وأحياناً مستحيلة.

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved