Thursday 2nd May,200210808العددالخميس 19 ,صفر 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

أجنحة الكلام أجنحة الكلام
ادعاء!
ريمة الخميس

في يقيني أن أصحاب النظريات وفلاسفة الجمال قد أسسوا رؤاهم على فرضيات تصورية أطلقوا أمامها خيالاً خصباً، وأنهم قد طالبوا المبدعين في الفن والأدب بما لم يجربوه وهم أولى بالتجربة أولاً، وأنهم قد أنابوا أنفسهم قسراً للحديث بلسان المبدع الذي لم ينب عنه سواه، وأنهم لو تبادلوا معه المواقع لاكتشفوا أن أطروحة «الصدق الفني» لا تكون أحياناً إلا ممارسة للكذب تمت اجازتها تحت تلك اللافتة للصدق الفني وإن خالف صدق الواقع والحقيقة. كذا، في لحظة خاطفة، قد تهتدز الرواسخ لتصبح كل الأشياء الجميلة نهباً لأسئلة قاسية للدمامة بلا ضمير، تتأرجح فيها الثوابت، ويخالط الشك بعض اليقين، أشياء جميلة طالما أعطت لنا بسخاء كل أسباب الوجاهة الثقافية، والاجتماعية أيضاً، وهيأت لنا نوعاً من الفصاحة المنهجية ببراعة صياغتها الشكلية التي ربما سقطت لو وضعت على محك الاختبار...
يقولون: إن المبدع ينتج تحت وطأة الاحباط الذي يعانيه حين اصطدامه بواقع جامد وعنيد، وأنه هكذا يكون قد حقق انتصاره حين يفضحه أو يعريه أو يطرح له البدائل.. ويقولون إنه من خلال هذا يتغير الواقع قسراً بعد أن كان معصوماً من الاستجابة الطوعية للأماني والأحلام، وإنه لهذه الأسباب تستبق حركة الفكر والابداع حركة المجتمع فتقودها وتوجهها شاءت أم أبت، ويقولون إنه في الفن، تتجرد الذات حتى تصل بلب مشاعرها الخاصة إلى مشارف الموضوعية ورحابتها حين تلتقط منها جوهراً انسانياً مطلقاً..
كلام جميل ووجيه، طالما بقي مصوناً في أغلفته النظرية، أو معروضاً في واجهات أنيقة للفلسفة وعلم الجمال، وأيضاً لأنه تأسس على فرضية أساسية تنسب هذا الانتاج الابداعي كله لمجتمع إنساني ولحركته التي لا يخرج فيها سلوك البشر عن وعيهم وتمسكهم الذي لا يساوم ولا يلين بأنهم «بشر إنسانيون» لا يخرجون حتى في عصورهم البدائية عن إنسانيتهم إلى وحشية الكواسر والجوارح..تلك الفتاة الغضة في ربيع عمر الزهور، التي فجرت نفسها في فلسطين، هل كانت قد عجزت عن أن تكتب قصيدة تغير بها مجرى الدم المراق إلى نهر يروي الأرض فتنتج الزهور؟ وأطفال البراءة في سن الرضاعة، الذين يولدون فوق أرض وطنهم وكأنهم منذورون للشهادة، أو موعودون وحدهم باستثناء وحيد ضد ناموس الحياة وسنة الكون وانسانية البشر، يرادف كلمتي «الميلاد» و «الموت» في معنى واحد لاقدارهم، ما الذي غيرته أمامهم قصائد درويش والقاسم وأغنيات فيروز؟
فلسطين استثناء في كل شيء فلكل انسان وطن يسكنه وينعم فيه بالسلام، وللفلسطينيين وطن يسكنهم ويعاني فيهم وجع التبدد والتلاشي، وفوق كل أرض بشر لا يفقدون انتماءهم لإنسانية البشر حتى في خلافاتهم، وفوق تلك الأرض وحوش لا ينسون ضراوتهم في أي علاقة أو حوار، وللناس بيوت تحميهم من البرد والمطر، ولهم بيوت تلمهم لموت جماعي قليل التكلفة، والعدالة التي تفصل بين البشر رمزها فتاة معصوبة العينين فلا ترى طرفاً تنحاز إليه، وللفلسطينيين عدالة مكتومة الأذنين فلا تسمع أنين الموجوع لتمييزه من عواء الذئاب وزئير الوحوش. ربما تكون هذه دعوة لكل شعراء أن يشحذوا قرائحهم إلى آخر حدود قدراتها على التجويد والابداع، وللمفكرين الذين يقودون حركة المجتمع الانساني، وللفنانين والأدباء، وللنقاد يلهبون بسياطهم ظهر المتواني والمتخاذل، فإن لملمت فلسطين جراحها، عرفنا واعترفنا أن لكل البشر وجود انساني ليس له استثناء، وأنها جديرة بالتصديق والتصفيق كل نظريات الفلسفة وعلم الجمال، فلا يكون هذا التعدي عليها من قبلنا إلا «محض ادعاء»!

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved