لعل يزيد بن الحكم الثقفي«105 ه= 723 م» كان أحد مؤسسي الشعر الحكميّ البارزين في العصر الأموي، كما أسَّس الكميت لفن المدائح النبوية، وجرير والفرزدق لفن النقائض. ولا غرو فالعصر الأموي كان عصر التأسيسات الثقافية العربية بشتى أوجهها، كما أشير في المساق السابق. ثم على النهج توالى مزج التيار النفسي بالتيار الفكري في الشعر حتى بلغ تجاذب الشعرية بين التيارين ذروته لدى أكبر شعراء العصر العباسي: أبي تمام، والمتنبي، ثم أبي العلاء المعري، وحتى ضج من ذلك القائل محتجاً على هذا الشعر: كلفتمونا حدَّ منطقكم.. تلك إذن حركة تطورية للشعر العربي، تنتهي به إلى مزيج متفاعل بين العقل والوجدان، تنمُّ على أن نجاح الشعرية في التجربة العميقة لا يتأتى عن حصر الشعر في سذاجة البوتقة العاطفية ولا في برودة الأفكار الخطابية، ولكن في مزيج متفاعل حيٍّ، يعكس شمولية التجربة الإنسانية بعمقها الواسع. فالمسألة إذن ليست في أن طريق الشعر لا تدخل باب الخير أو الحكمة وإلا لانت، على حد زعم الأصمعي، ولكن في أن يكون الشاعر نفسه ولاّجا خرّاجاً في طرق الشعر، بما أوتي من موهبة تفتح أبواب الشعر أمامه.
إن كل شاعر عظيم مفكر عظيم بالضرورة. ولذا فمن المشكوك فيه أن مقولة: «أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتريّ» قد صدرت عن المتنبي أصلاً، التيّاه بشعريّته:
أفي كل يوم تحت ضبني شويعرٌ ضعيفٌ يقاويني قصيرٌ يطاوِلُ |
والتيّاه بفكريّته أيضاً، حتى رأى في نفسه متنبئاً، إن حقيقة أو رمزاً. إلا إنْ فُهم من مقولته تلك التمييز بين حكيم الشعراء وكان مصطلح«الحكيم» في تلك العصور يعني«الفيلسوف» القادر على وصل التيار الوجدانيّ بالتيار الفكريّ، والشاعر الغنائيّ التقليديّ، من نمط البحتري وشعره.
على أن المزج بين تياري الفكر والوجدان عملية جدُّ دقيقة، تتطلب موهبة شعرية من طراز موهبة المتنبي. وإلا وقع المنزلق إلى جنس الخطابة والنثر، وإن ظنّ القائل ما يقوله شعراً وخدع السامع عن جنس الشعر ولغته. ذلك أن للخطابة شعريتها الخاصة، وللموعظة والحكمة شجوها وصداها في النفس الإنسانية، وما أكثر ما يختلط الأمر على المرء غير الناقد: بين طربه للشعر بما هو شعرٌ وطربه للبعد الخطابي في الشعر.
فذاك إذن هو موضع الشعر الحكمي من طبيعة الشعر. فأين موقع شعر«ابن الحكم» من هذا كله؟
«ذاك هو موضوع المساق الآتي».
مرفأ«علي الحازمي، خسران»:
أُمِّي الحبيبة لم تزل تخفي ملامح خيبة ظلِّها
ظلْتَّ تعدُّ لنا من الأحلام خبزاً طازجاً عند الصباح
وحين ينتصف المساء
تُعيدُ تسخين الفتات من الأماني على مجامر روحها
عشنا نصدقها ونمضغ خبز كذبتها..
لنحيا
د. عبدالله الفَيفي آداب جامعة الملك سعود قسم اللغة العربية aalfaify@hotmail.co
|