في الوقت الذي يمكن القول فيه إن القراءة قد تشكل تثقيفا للانسان، بمعنى تهيئة واعداد وصقل له بحيث يصبح قادرا ومؤهلا على التعامل والتعاطي مع العالم بكل تطوراته وتحولاته، يمكن القول في نفس الوقت انها قد تشكل الى حد ما تغريبا له عن الثقافة الاجتماعية السائدة.
ثقافة المجتمع المحلي، او ما يمكن ان يسمى تحديدا الثقافة الشعبية، بمعنى ثقافة اليومي والمحكي والمعيش، تلك الثقافة التي تتجسد من خلال العلاقات اليومية المباشرة بين افراد المجتمع والتي تمثل مجموع العادات والتقاليد والاساطير المتوارثة عبر اجيال عديدة والتي ترسخت في الذاكرة الجمعية من خلال العديد من القيم والمفاهيم التي يصعب تجاوزها او حتى محاولة نقدها او تصحيحها، رغم كونها في الغالب لا تستند الى مرجعيات علمية او عقلانية..
ان القراءة بما هي تشكل تأسيسا لثقافة جديدة او عقلية جديدة تقوم على انقاض كل ما هو غير علمي وغير عقلاني ولا يتناسب مع العصر ضمن الثقافة السائدة، تضع القارئ او المثقف في موقف تصادمي او غير منسجم مع محيطه ومجتمعه المحلي، الذي يرى ان اي تطور او تحول يشكل خطرا على هويته تجب مقاومته، والوقوف ضده، و هذا الموقف قد يشكل سمة مشتركة لكل المجتمعات وفي مراحل وظروف معينة، يتجلى ذلك من خلال العديد من التناقضات والاشكالات التي تبرز من خلال التعامل اليومي او التحاور حول القضايا المطروحة، وربما من ابرز تلك التناقضات ما يتعلق بازدواجية اللغة، لغة الكتابة مقابل لغة التعامل اليومي، المقروء والمسموع، المنطوق والمكتوب، والعديد من الثنائيات الاخرى التي تندرج ضمن هذا الاطار، فاللغة تتجاوز كونها وسيلة للتعبير او التواصل الاجتماعي، الى كونها وعاء للفكر، وهنا ربما تكمن الاشكالية، او الخلل، حيث ان اختلاف الفكر، ومرجعيات التفكير، يوصل بالضرورة الى رؤى ونتائج وربما مواقف أيضا متباينة، ولأن السائد هو الاكثر قدرة على التأثير، فان المختلف يصبح شاذا في هذه المعادلة، وان كان يملك مقومات الاقناع والمواجهة، ربما هذه الاشكالية لم تعد مطروحة الآن بنفس الحدة السابقة، لكن من المؤكد انه لا يمكن نفي الخلل في العلاقة بين المثقف ومحيطه، خاصة في ظل العجز عن خلق لغة مشتركة للحوار وبالتالي التفكير مما يدفع المثقف للتماهي مع ذلك المحيط متخليا عن كثير من قناعاته، او الانطواء ضمن منظومة او دائرة اكاديمية تمارس التنظير والتأليف دون ان يشكل ذلك تماسا مباشرا، او تواصلا مع المحيط، مما يخلق في النهاية نوعا من «الانتلجنسيا» غير الفعالة، او المؤثرة الا ضمن دائرتها الضيقة، لذا قد يجد بعض المثقفين الحل في الانضمام الى ثقافة الواجهات، الثقافة الاعلامية التي تتوجه مباشرة الى الجمهور من خلال مخاطبة الاحاسيس والغرائز، او غير ذلك من الوسائل ليؤدي الدور المطلوب منه في ظل تلك الثقافة المدعومة، والتي تعود عليه بالنفع ماديا واجتماعيا، حتى وان كان ذلك يتطلب تبديل الادوار والمواقف حسب متطلبات السوق.
أليس ذلك افضل من السير في الاتجاه المعاكس؟
|