ذكرت في المقالة السابقة قصة الطالب السعودي الذي كان مبتعثا الى امريكا للتدريب على صيانة احد محركات الطائرة البوينج العملاقة 747 واستعرضت كيف انه اضطر في إحدى المرات «التدريبية» الى أن يرمي بقطعة صغيرة من المحرك بعدما استعصى عليه ارجاعها الى مكانها المناسب.وبالتأكيد فصغر حجمها كان السبب الرئيس لفعله هذا، غير أن الصغر هنا في الحجم لا في الأداء، الامر الذي جعل مدربه يقدم على عذله مذكرا إياه بأنه قد قتل افتراضيا بتصرفه هذا ركاب الطائرة جميعهم.
والسؤال لماذا تطغى الكمية على النوعية؟ وما الذي يجعل من الصغير حجما ضئيلاً قدرا؟! وهنا فبامكاننا القول إن «الثقافة» التي تحدد وتفصل مقاسات ملابس الفرد تحدد وتفصل كذلك طرائق تفكيره، وحين تسود عقلية المظاهر والمحسوسات تغيب عن الاذهان اهمية الاشياء الصغيرة مهما كان لها من التأثير، والكمية حين تقتل النوعية تمنح الاحجام مشروعية احتلال الافهام، فلا يعد المرء «باصغريه قلبه ولسانه»، بل تصبح معايير تقييمه كميات من اللحم والشحم والماديات، كما في قول الشاعر:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق الا صورة اللحم والدم |
فالتركيز التعليمي/ التربوي المخل على معيار «الكمية» يعيق تقدم ما هو ثقافي نوعي، رغم ما للنوعي هذا من اهمية بل خطورة وذلك لكونه «معنوياً» غير محسوس رغم تأثيره البالغ، فهو كغاز «ثاني اوكسيد الكربون»، الذي يتسلل فيخنق النائم بخفية، ولهذا اطلق عليه باللغة الانجليزية اسم: القاتل الخفي. عليه فمعلومة صغيرة خاطئة من قبل المعلم مثلها مثل قطعة المحرك المعنية قادرة على الدفع بالتلميذ «الصغير» سنا وفهما الى مسالك الخطأ في الفكر والسلوك، ومجرد اشاعة «صغيرة» عن فرد ما قمينة بان تحدث من الضرر «الاجتماعي» ماهو اخطر واعم، كما ان «طوبة» صغيرة تنقص من جدار الحقيقة جديرة بخلق ثغرة وتخلق ثغوراً.
في الختام سؤال في اجابته العلاج: كيف لنا صياغة الثقافة على نحو يمدها بالقدرة على تزويد افرادها بفضيلة ادراك ابعاد ومضامين حقيقة أن معايير «الاداء» الامثل تحددها كيفيات الاداء لا الحجم ولا الكمية؟!
|