الكتابة، صحفية كانت أم أدبية أم نقدية، تظل شاغلاً مقلقاً لكل من دخل أجواءها يوماً ثم توقف. قد نتمكن من تناسيها مؤقتاً بوضعها في درج ما، لكن الهموم التي تحركها سرعان ما تخرج العفريت من قمقمه ليعود القلق من جديد.
غير أن العودة إلى الكتابة لا تعني بالضرورة نشر ما يكتب، فالنشر مسألة أخرى، أحسبها شاغلاً مستقلاً للبعض منا، وإن لم تشغل البعض الآخر. الشاعرة الأمريكية إميلي دكنسن أقلقها الهم الكتابي قبل حوالي قرن ونصف إلى الحد الذي جعلها تدون حوالي الألف وخمسمائة قصيدة، دون أن تنشر شيئاً منها، بعد أن حبست تلك النصوص القصيرة في درج بانتظار من قد يود قراءتها ونشرها، ومن الواضح أنها لم تر في النشر ما يغري بإطلاق حرية النصوص، بل زادت على ذلك بأن احتقرت النشر حين وصفته في إحدى تلك القصائد بأنه «بيع العقل بالمزاد العلني». والحق أنها لم تبتعد عن الصواب كثيراً، فالنشر، مهما قلنا أنه مشاركة وحوار، هو أيضاً شكل من أشكال الاستجداء، تسول يلاحق أعين القراء، توسل أمام الاهتمامات المتغيرة والوقت المتسارع، أرأيت اللوحات والدعايات وأضواء النيون تلهب السماء بحثاً عن أعين تنظر ثم تشتري؟ ألم تسمع أولئك الباعة يطلون عليك في الأسواق يغرونك بالشراء، وقد يناديك البعض منهم ويلاحقك؟
الذين ينشرون أعمالهم ليسوا بعيدين عن ذلك!
الفرق هو في المستوى، أو هكذا نود أن نعلل أنفسنا، فنتحدث عن الإيمان بأن الثقافة فضاء مشترك ومساحة إنسانية تضيق بالفكر الواحد والذاكرة الواحدة، وأن من الضروري ألا نحتفظ بما نعلم أو نحس به أو نستطيع أن نبدع، وأن هناك من ينتظر هذا العلم أو ذلك الإحساس أو الإبداع. لكن المشكلة تنتظرنا هنا بالضبط، في ثقتنا المفرطة أحياناً بما لدينا وبأن هناك عدداً يكفي ممن يؤمنون بالحاجة إلى المشاركة، وأنهم ينتظرون ما سيهطل عليهم من أقلام الكتاب.
ومع ذلك فإن هذه المشكلة هي التي لا غنى لأحد عنها فلابد لكل كاتب يدعي الجدية أن يلبس عدة دون كيشوت، أن يحارب طواحين الهواء ويبني ممالك من جزر لا أحد فيها، أو جزر خطرة كتلك التي رسمها الشاعر العماني سيف الرحبي في إحدى قصائده:
وهكذا أيضاً أحلم أنني قائد أوركسترا |
في جزر
تشتعل فيها النيران.
ومع ذلك فإن الصورة ليس بالعتمة التي تحتاج معها إلى كل تلك النيران (وليس ذلك مقصود الرحبي كما أظن). نعم هناك لحظات مظلمة لا أعتقد أن أحداً ممن يكتبون بجدية يستطيع الهرب منها، أقصد لحظات اليأس من إمكانية أي شيء، اليأس من أن لا أحد هناك يستجيب. لكن تلك اللحظات رغم ثقلها تثبت أنها خفيفة هشة الحضور بمجرد أن يتصل صديق ليعلق على مقالة، أو يصادفك من تعرف، بل ومن لا تعرف وهو الأجمل، لكي يشير إلى أنه متابع لما تكتب. فعلى قلة هولاء وأولئك، فإن الواحد منهم بكلماته المطمئنة قادر على شحنك بثقة تكفي لكتابة العديد من المقالات وتحدي كل مثبطات النشر.
تلك الشحنة هي التي عملت هنا على عودة المحاولة أو محاولة العودة. ولم تكن هناك حاجة للبحث عن قضايا أو هموم لملئ المساحة التي تعنيها العودة، فالهموم هي التي يضرب المثل بكثرتها، والسنوات الثلاث أو الأربع التي مرت منذ آخر مقالة كتبت في هذه الزاوية محتشدة بالكثير، والفترة التي نعيشها حالياً تحتشد بالكثير أيضاً، ناهيك عن المستقبل إن قدر الله لنا أن نراه. الصعوبة ستكون في اختيار ما يلائم وطرحه على النحو الملائم أيضاً، فثمن القراء غال كما ذكرت قبل قليل، وليس أسهل من تنفير القارئ المميز وأصعب من اجتذابه والتحاور معه. أقول ذلك من موقعي كقارئ قبل أي شيء آخر، قارئ يدرك «ثقل دم» أو فراغ الكثير من الزوايا (ومن المفارقة أن الزوايا عادة تكون فارغة، أو محشوة بالتحف الجامدة!). فما أصعب العثور على ما يغري بالقراءة باستمرار، إذا استثنينا الكتابات التي تعتمد على موهبة كوميدية تلفت النظر بخفتها وما فيها من إضحاك. لكن طرح القضايا الجادة غالباً ما يؤدي إلى شيء من الاثقال على القارئ، ذلك الكائن المنقرض، وزيادته انقراضاً. فكثيرة هي الكشاوى التي سمعتها عبر الأعوام التي كتبت فيها زاوية ما من «صعوبة» ما أكتب، مع أنني متأكد أن التهذيب وحده منع الكثيرين من وصف ذلك بثقل الدم أو على الأقل التعقيد الذي لا مبرر له.
في ما يلي من مقالات لن أدعي قدرة تفوق ما كان لدي، بل إني أخشى انحداراً في تلك القدرة وغرقاً من ثم في الموضوعات والأساليب المنفرة.
كل ما أستطيع الوعد به هو المحاولة الجادة لتقديم ما يغري بالتفكير والمتابعة، حتى وإن كان معنى ذلك «بيع العقل بالمزاد العلني» كما تقول دكنسن، أو العزف في جزر مشتعلة.
|