تحدثنا في الحلقة الماضية عن بداية الشاعر إبراهيم العريض كشاعر أسس ثقافته من المصادر الثقافية المتطورة في زمانه ونود اليوم ان نتحدث عنه شاعرا جدد في الشعر العربي في منطقة الخليج العربي، في وقت مبكر من عمر الثقافة الحديثة، التي كان وما يزال له الدور الريادي فيها إلى اليوم، فقد كان الشعر تقليدياً إلى الغاية في ذلك الوقت، ليس في البناء فقط، لكن في المضمون أيضاً فالمدارس قليلة، والثقافة العالمية محدودة، والفكر التقليدي البليد متوارث على أشده، ولم يكن هناك من المثقفين الذين يسعون للتجديد إلا القليل في هذه المنطقة التي شهد لها التاريخ بالفكر المبدع منذ بزوغ الإنسانية، ولا شك ان ذلك الوضع المتردي قد آلم الشاعر ومن معه من الطبقة المثقفة فانضم للتدريس، وهو الأقرب للرفع من مستوى الثقافة الحديثة، من جانب وليعطي من ثقافته المكتسبة من جانب آخر، لأن الوقت الذي عاد فيه العريض من هجرته كان وقت انتشار التيار المهجري الذي أخذ في المد والتأثير على الثقافة العربية، فيما يتعلّق بالتجديد الشكلي والضمني، ولأن مجموعة الشباب المتحمس للتجديد في العالم العربي يتطلعون لتجديد عربي/عربي، من خارج التجديد الأجنبي، مثل «محمد حسن عواد وإبراهيم العريض» فقد وجدوا ضالتهم عند اخوتهم المهاجرين، فكان تأثير نعيمة، وجبران خليل جبران، وإليا أبو ماضي وغيرهم من الرموز المهجرية شديداً. فالمهجرون استطاعوا كسر الحواجز التقليدية والخروج من ربقة التبعية إلى ابتكار الشكل الجديد، وقد طعم هؤلاء ثقافتهم العربية بالثقافة الغربية الحديثة، وإذا أخد عليهم شيء من النقص في اتباعهم للرومانسية، ان الزمن كان زمناً رومانسياً في العالم كله آنذاك، والعريض ومن حذا حذوه في الثلاثينيات من القرن العشرين كانوا يسيرون على نفس المنهج المتبع في ذلك الوقت، وقد وجدنا ان العريض كان اكبر من التجربة الخليجية، فلم يلتفت في كتابه «الشعر وقضيته في الأدب العربي الحديث» 1955م، وهي مجموعة مقالاته التي كان ينشرها في مجلة صوت الخليج ولا ندري هل السبب ان العريض يمثل صوتا منفردا كما يقول الدكتور ابراهيم غلوم؟؟ وانه يرى ان الحركة النقدية لا تستحق الالتفات إليها في ذلك الزمن؟؟ أو انه يهادن الوضع الغالب في ذلك الزمن من التيار التقليدي؟؟ أمور لا نستطيع التنبؤ بها، قد يكون واحدا منها، وقد تكون جميعاً، وانها لم تقف في وجه ابداعاته الشعرية وتجديده الملموس في عالم الشعر العربي والخليجي بوجه عام. فالفن عند العريض مرآة أمة لم تكتمل زواياها، والزمن متثآب، والرؤية ضبابية، والعين مجردة!! وإذا كان إبراهيم العريض يرى ان الشعر يعتمد على الثنائيات، المرأة/ الحياة، والفن/ الشعر، وما إلى ذلك من الثنائيات الرومانسية الحيّة، فإن ذلك قد طرق في كثير من الشعر العربي بل ان اغلب الشعر العربي يقوم على هذه الثنائيات، وكيف لنا ان نفسر اتجاه العريض الفلسفي، واتباع المنهج المهجري وربطه بالمنهج الفلسفي عند الخيام، وهل المهاجرون من أتباع الخيام، أو بول سارتر فيما بعد؟ أظن أن المهاجر العربي المتجه دائماً إلى الفلسفة المسيحية في مناخ هيأ له ذلك قد استطاع ان يعبر بما يجول في نفسه بطريقة لم يستطع غيره ان يعبر بها، ولم يكن نفسه يستطيع ذلك لو كان في مناخ غير المناخات التي عاش فيها. فحرية الرأي قد منحت الشاعر المهاجر مجالاً خصباً أوسع من مجاله العربي لذا طرح العريض آراءه من خلال الشعر المهجري وليس من خلال الشعر المحلي، لأن ذلك الشعر في ذلك الزمان لم يف بما يطمح إليه العريض، مثلما لم يف بما يطمح إليه محمد حسن عواد، ونجد في تجربة العريض الشعرية، ومثلها النقدية نموذجاً فريداً في ذلك الزمن في منطقة الخليج العربي السائر شعراؤها على النمطية التقليدية، ومع ذلك فالعريض مدرسة نقدية.
|