Thursday 25th April,200210801العددالخميس 12 ,صفر 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

الكابوس المرعب.. على أرض الواقع الكابوس المرعب.. على أرض الواقع
منصور محمد الخريجي

تحت عنوان الدلائل الصارخة لجرائم الحرب تتضح من بين الدمار الكامل لمدينة جنين الفلسطينية كتب فل ريفز، مندوب صحيفة «الاندبندنت» البريطانية عند زيارته لفلسطين المحتلة والتي اجتاحها الجيش الصهيوني الغازي، تقريراً رأيت أن أترجمه لقراء العربية كون المراسل ينتمي إلى الشعب الذي خطط ساستهم ونفذت جيوشهم على أحسن وجه جريمة اغتصاب فلسطين من قبل صهاينة العصر الحديث الذين لازالوا يلقون كل العون والمساعدة والتأييد المقنع وغير المقنع والذي لا يزيد عليه بوقاحته هذه الأيام إلا التأكيد والدعم الأمريكي حتى تبقى ذكرى المذابح الرهيبة التي اقترفها الغزاة الصهاينة منذ بداية تأسيس إسرائيل وحتى يومنا هذا في عقول وقلوب ووجدان أبناء هذا الشعب العربي لعله يخرج من صلب واحد من مئات الملايين العرب الأحياء الأموات في مستقبل الأيام، من يطلق الشرارة التي طال انتظارها، الشرارة التي تعيد لهم وعيهم وتوقظهم من سباتهم الذي طال وتبعث في أوصالهم الميتة نبض الحياة من جديد. لعلهم يثأرون لكرامتهم المهدورة وينفضون عن أنفسهم غبار الذل والعار الذي غطى على كل ملامحهم فلم يعودوا يعرفون هم أنفسهم أهم بشر يتنفسون الهواء ويأكلون الطعام أم أنهم مجرد أعجاز نخل خاوية تشبه البشر، وإلى المقال الذي نشر في 16 أبريل 2002م.
إن الجريمة الشنيعة التي ارتكبتها إسرائيل حاولت أن تخفيها عن العالم لمدة أسبوعين قد انكشفت أخيراً، ان القوات الإسرائيلية التي مسحت من الوجود وسط وجميع مباني وشوارع جنين حاولت لمدة أسبوعين منع الصحفيين من الوصول إلى المنطقة المنكوبة التي استطاع مندوب جريدة «الاندبندنت» أخيراً أن يصلها أمس حيث لا يزال الآلاف من سكانها يعيشون وسط الركام.
ان مساحة ما يزيد على مائة وستين ألف ياردة من المناطق السكنية قد سويت نهائياً بالأرض. وقد قامت القوات الإسرائيلية بتجريف المناطق المهدمة بالجرافات حيث بلغ ارتفاع أكوام الردم ما يزيد على ثلاثين قدماً. كما أن روائح اللحم العفن تزكم الأنوف مما يدل دلالة قاطعة أن تلك الأكوام من الردم كانت لإخفاء مئات الجثث من السكان الذين ذبحوا دون تمييز بين طفل وامرأة وتم دفنهم في هذه القبور الجماعية على شكل تلال صغيرة كومت على عجل بالجرافات الإسرائيلية، إن السكان الذين لجئوا إلى المخابئ وبقوا أحياء على الرغم من الحصار الشديد عليهم وبقاؤهم أيام عديدة دون طعام أو شراب أكدوا لنا أن هناك المئات من الذين دفنوا أحياء تحت أنقاض بيوتهم التي داهمتها دبابات ومجنزرات الجيش الإسرائيلي والذين تم دفنهم بجرفهم مع أنقاض بيوتهم ثم هرسهم بالدبابات والمجنزرات ليتساووا مع الأرض. شاهدنا مبنى قريب تهدَّم نصفه، شاهدنا جثة رجل عارية إلا من بعض خرق جعلت فوقه وقد انتفخت الجثة وغطاها الذباب. وفي مبنى آخر شاهدنا بقايا رفات أشرف أبو هاجر البالغ من العمر ثلاثة وعشرين عاماً وقد انهارت الغرفة فوقه بعد أن حولتها نيران المدافع الإسرائيلية إلى أحجار اسمنت محروق. لقد انكمش رأس الجثة وصار أسوداً، كما رأينا في منزل آخر جثث خمسة رجال بدا أنه مضى على مصرعهم عدة أيام. وقد حاول بعض الأحياء ستر ما تبقى من جثثهم بالقاء بعض البطانيات عليها. قادنا شاب حزين زائغ النظرات اسمه كمال أنيس عبر أرض أصبحت خواء تناثرت فيها بقايا ما كان منذ أيام قليلة أثاث ومحتويات منازل تنبض بالحياة، قطع اسفنج، ملابس ممزقة، أحذية، علب معدنية ولعب أطفال وغيرها، وفجأة توقف كمال وأشار بيده إلى مكان ظهرت فيه بوضوح أثار الجرافات وقال: إن هذا قبر جماعي، وأشار إلى كومة ركام اختلطت فيها بقايا أثاث محطم وملابس ممزقة وقال إن الإسرائيليين دفنوا هنا في النصف الذي كان قد تهدم من هذا المنزل ثلاثين جثة ثم هدموا النصف القائم وكوموه فوق الحطام السابق والجثث التي دفنت تحته. فعلوا كل ذلك ثم مروا بالدبابات فوق الركام لتسويته بالأرض. لم نر الجثث المدفونة لكننا كنا نشم رائحة الموت بوضوح. ربما لم نكن نصدق ما قاله كمال أنيس لو تحدثنا إليه قبل بضعة أيام. ولكن الوصف والحكايات التي سمعناها من لاجئين آخرين هربوا من جحيم النار التي كانت تصبها الدبابات والمدافع الإسرائيلية عليهم في جنين كانت أقل بكثير مما حدث بالفعل وليست مبالغات وكذباً كما كنا نعتقد قبلاً وكما أرادت الدعاية الإسرائيلية لنا أن نعتقد. لم تهيئني كل الحكايات التي سمعتها من اللاجئين لما رأيته بالأمس. لكنني بعد أن شاهدت بعيني ما حدث فإنني أصدقهم الآن، قبل أسبوعين فقط كان هناك حي اسمه حارة الهواشم. كان حياً يحوي بعض مئات من المنازل تعج بالحياة بسكانها الساعين وراء رزقهم، لقد اختفى هذا الحي بأكمله من الوجود، شاهدنا في وسط المنطقة المدمرة عدة مئات من المنازل في حالات متفاوتة من التدمير، إن معظم ما بقي من المباني القائمة والتي تعرضت جميعها للهدم والدمار، والتي يقطنها ما لا يقل عن خمسة عشر ألف فلسطيني من لاجئي 1948، معظمها بدأ ينهار كلياً، ان كل جدار لا يزال قائماً تغطيه الندوب والشقوق والفتحات من أثر زخات الرصاص وطلقات المدافع وشلالات القنابل التي كانت تنطلق عشوائياً من طائرات الأباتشي والكوبرا الأمريكية التي كانت تحلق على مدار الساعة فوق تلك المباني، لقد كانت تلك المباني والمنازل تسقط واحدة بعد الأخرى بعد أن تمزقها القنابل المرسلة من فوهات المدافع الإسرائيلية وكانت محتوياتها تتناثر في كل اتجاه، فأين صوبت نظرك كنت ترى مفروشات رخيصة مقلدة، مراتب نوم كراسي بلاستيكية بيضاء وغيرها متناثرة بين الأنقاض وعلى الشوارع الضيقة التي تفصل المباني عن بعضها البعض، أن كل موقع لا تزال بعض أجزائه قائمة ترى في جدرانه الفتحات السوداء الرهيبة التي خلفتها صواريخ الهيلوكبترات الأمريكية، شاهدنا مساء أمس عدة عوائل لا تزال مختبئة تحت أنقاض منازلهم المنكوبة وشاهدنا الأمهات يحاولن إسكات أطفالهن عن البكاء، كان الأطفال يبكون من الخوف ومن الجوع والعطش بعد أن منع اليهود وصول أي اغاثة إلى أولئك البؤساء، ومما يدعو إلى الاستغراب الذي ينبئ عن جرائم أكثر بشاعة أننا لم نجد أناساً مصابين!! على الرغم من أننا سمعنا عن رجل جريح أخرج، قبل ساعة من وصولنا من تحت الأنقاض.
أما الذين لم يهربوا من منازلهم أو أولئك الذين لم تعتقلهم قوات الاحتلال فقد لجئوا إلى المخابئ وهم في أسوأ حالات الرعب يتوقعون كل لحظة أن تسقط عليهم قذيفة من تلك التي كانت تصبها عليهم مدافع الدبابات، لقد أجبر بعضهم إلى التجمع في غرف من قبل جنود الاحتلال الذين كانوا يقتحمون البيوت في دباباتهم التي تشق طريقها عبر جدران المنازل، تقول مصادر الأمم المتحدة أن نصف سكان المخيم البالغ عددهم خمسة عشر ألف نسمة هم أقل من 18 سنة، وما أن سكنت أصوات المدافع حتى بدأنا نسمع أصوات الأطفال، أما المساجد التي كانت في السابق تعج بالمصلين فقد أصبحت الآن صامتة، كانت إسرائيل لا تزال تحاول حتى يوم أمس اخفاء حقيقة ما حدث، لقد رفضت السماح لسيارات اسعاف الصليب الأحمر الدخول إلى المخيم لمدة أسبوع كامل وهذا كما هو معروف يخالف معاهدة جنيف، وكانت إلى يوم أمس لا تزال تحاول منعنا من دخول المخيم. ولا تزال جنين، وهي تقع شمال الضفة الغربية المحتلة، منطقة عسكرية مقفلة تحوط بها دبابات «مركافا» ومركبات الأفراد المدرعة والحراسة العسكرية المسلحة بكل أشكالها. وكل صحفي يشاهد متسللا إلى داخل المخيم كان يقبض عليه ويعاد من حيث أتى. ولكن القوات الإسرائيلية اختارت بالرغم من ذلك بعض المراسلين الذين اختارتهم بعناية، واقتادتهم إلى بعض مناطق معينة جرى تنظيفها بسرعة لارسال تقارير متفق عليها مع قوات الاحتلال إلى الجهات التي أوفدتهم. أما نحن فما كان علينا إلا أن أخذنا طريقنا عبر الحقول وأشجار الزيتون، التي تراقبها هي أيضاً دبابات إسرائيل، ودخلنا إلى المخيم، وكنا نرى الأيدي من خلف النوافذ وهي تشير لنا بالتقدم، كان الذعر يسيطر على من بقي حياً من السكان وهم يشيرون لنا ويهمسون أحياناً مشيرين إلى الاتجاه الذي نسلكه والذي يظنون أنه آمن، وعندما كانوا يرون جندياً إسرائيلياً كانوا يؤشرون لنا بالصمت أو يطلبون منا العودة إلى الوراء، شاهدنا الترحيب الحار بنا من خلال نظرات الأحياء من السكان الذين لم يكونوا يتوقعون إلى لحظة دخولنا إلى مخيمهم أنهم سيرون أناساً لا يسعون إلى قتلهم وحرقهم، وكان حرصهم كبيراً على اطلاعنا على ما حل بهم من ويلات، أخبرونا عن اعدامات تنفذ وعن جرافات أتت على المنازل وسكانها بداخلها.
قال لنا جميل صالح البالغ الثالثة والأربعين من العمر «إن ما حدث جريمة قتل جماعية اقترفها شارون، اننا نشعر الآن بكراهية أكبر بكثير من قبل تجاه إسرائيل، أنظر إلى هذا الغلام، ووضع يده على رأس صبي صغير أشعث الشعر اسمه محمد يبلغ من العمر ثمانية سنوات وهو ابن صديق له، وأضاف :« انه رأى كل ما حدث من شر وسوف يتذكره كله» ولا شك أن كل من عاش مأساة مخيم جنين لن ينسى أبداً ما شاهده، لقد عقدت الصدمة الرهيبة ألسنة الفلسطينيين الذين عادوا إلى المخيم بعد ذلك الاجتياح الإسرائيلي الرهيب.
وصل السيد رجب أحمد وهو من هيئة الطاقة الفلسطينية، لاصلاح الأعطال في التيار الكهربائي، كان ينتفض من الصدمة والغضب، «هذه جريمة جماعية شنيعة، لقد جئت إلى هناك للمساعدة إلا أنني وجدت خراباً كاملاً، أنظر بنفسك إلى ما حدث». لقد كان لدى جميع الفلسطينيين الذين قابلهم طلباً واحداً: أخبروا العالم بما حدث.

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved