خلال الثمانينات عندما كانت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل تسعيان جاهدتين من أجل تجنب المبادرات التي تقدمها منظمة التحريرالفلسطينية لإجراء مفاوضات وإيجاد تسوية سلمية بينما كانت إسرائيل مصرة على لاءاتها الثلاث... لا للمفاوضات مع منظمة التحريرالفلسطينية.... ولا للدولة الفلسطينية... ولا لتغيير الوضع القائم في يهودا والسامرة وغزة، (كما أصرت على أن الأردن هو عمليا الدولة الفلسطينية).
وباستثناء الاتفاق على الخطوط الرئيسية «للحكومة الإسرائيلية» (وهي عبارةعن خطة بيريز شامير الائتلافية عام 1989) المصادق عليها من قبل الرئيس بوش الاب في خطة جيمس بيكر في كانون أول من عام 1989، وقد بقيت جميع هذه الأمور غير معلنة من قبل الولايات المتحدة، وبانتظام مثلما كان يحدث في السابق.
نستطيع أن نلمس تطورا جديدا في الموقف ألا وهو المبادرة العربية التاريخية التي قدمت في مؤتمر القمة، وهي تكرار للمصطلحات الرئيسية لقرارات مجلس الأمن الصادرة عام1967 والتي لقيت اجماعا من قبل العالم بأسره بما فيه البلدان العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية وأوروبا والاتحاد السوفيتي وكل من هومعني بالقضية.
وقد عارضت إسرائيل بالطبع هذا القرار ولكن صوتت له الولايات المتحدة، وقد دعا القرار إلى ايجاد تسوية سياسة على الحدود المعترف بها «وبرتيبات مناسبة لضمان سيادة ووحدة المناطق، والاستقلال السياسي لجميع الدول في المنطقة والاعتراف بحق الشعوب بالعيش في سلام و ضمن حدود آمنة ومعترف بها»... وهكذا فقد تم تعديل قرار هيئة الأمم رقم 242 ليشمل إنشاء دولة فلسطينية، ولكن بالطبع لم ينفذ هذا القرار، وتم أيضا إعاقة العديد من المبادرات المماثلة التي قامت بتقديمها الدول العربية، ومنظمة التحرير الفلسطينية وأوروبا من قبل الولايات المتحدة وغالبا ما يتم تعليقها أو رفضها في مناقشات علنية لمجلس الأمن.
وتعود سياسة الرفض الأمريكية إلى عام 1971، عندما عرض الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات على إسرائيل توقيع معاهدة سلام كاملة مقابل انسحاب إسرائيل من الأراضي المصرية، وقد اعترفت حكومة حزب العمل آنذاك بأن هذا العرض يعتبر بمثابة سلام حقيقي، ولكنها رفضته من أجل توسيع مستوطناتها في شمال شرقي سيناء، وقد قامت بذلك بسرعة وبوحشية متطرفة، وكان هذا هو السبب الفوري لحرب عام1973م.
وقد كتب المعلق الإسرائيلي عاموس آلون بأن السادات أحدث «رعبا» لدى القيادة السياسية الإسرائيلية عندما أعلن عن رغبته في توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل وعندما أعلن عن احترامه لاستقلال وسيادة إسرائيل وحقها في العيش ضمن حدود آمنة ومعترف بها».
وقد نجح هنري كيسنجر في إعاقة السلام آنذاك بفرض تفضيله لما أسماه «مأزقا» حين صرح ب«لا» للمفاوضات و«نعم» لاستخدام القوة فقط.
أما عروض السلام الأردنية فكانت ترفض دائما ومنذ ذلك الحين التزم الساسة الأمريكيين الرسميين بالإجماع الدولي الذي يصر على الانسحاب حتى قام الرئيس بل كلينتون بإلغاء قرارات هيئة الأمم واعتبارات القانون الدولي.
ولكن عمليا أتبعت السياسة الامريكية التعليمات التي ارساها هنري كيسنجر وهي القبول بالمفاوضات فقط عندما ترغم إسرائيل على ذلك، ومثلما حدث بعد كارثة حرب 1973م والتي يتحمل كيسنجر مسؤولية رئيسية في اندلاعها، أما الخطط الخاصة بالشعب الفلسطيني فقد اتبعت التعليمات والشروط التي صاغها موشيه دايان، أحد زعماء حزب العمل، الذي نصح مجلس الوزراء بأنه يتوجب على إسرائيل التوضيح للاجئين بأنه «لا يوجد لدينا حل.. عليكم أن تستمروا بالعيش الذليل ومن لديه الرغبة باستطاعته المغادرة وسنرى إلى أين ستقودنا هذه العملية»، وعندما تم تحديه، أجاب مستشهدا ببن غوريون، الذي قال بأن كل من يقترب من المسألة الصهيونية من الناحية الأخلاقية لا يعتبر صهيونيا، وبدون استغراب فان المبادىء التي يسير عليها الاحتلال كانت تستخدم الإذلال مستمر والإهانة إضافة إلى التعذيب والإرهاب وتدمير الممتلكات وإخلاء المنازل والاستيلاء على المصادر الرئيسية وبشكل رئيسي الماء، وقد تطلب هذا الأمر دعما أمريكيا حاسما ممتدا حتى عهد الرئيس كلينتون باراك.
وقد طرح ادوارد ووكر مسؤول الإدارة الأمريكية عن الشرق الأوسط في إدارة كلينتون السؤال التالي: «ماذا يمكن لعرفات أن يعمل من أجل استعادة ثقتنا به، إن عرفات يجب أن يعلن وبدون غموض ويقول: إننا نضع مستقبلنا ومصيرنا في أيدي الولايات المتحدة»، تلك الحكومة التي قادت الحملة للتقليل من الحقوق الفلسطينية منذ 35 عاما؟ إن المشكلة الرئيسية إذن تعود إلى واشنطن التي كانت على الدوام تدعم الرفض الإسرائيلي لأية تسوية سياسية، مقابل الإجماع الدولي وفي أساسها «المبادرة العربية».
إن التعديلات الحالية للرفض الأمريكي تعتبر تكتيكية وفرعية لغاية الآن، ولكن مع وجود خطط للهجوم على العراق فقد سمحت الولايات المتحدة بإصدار قرار من هيئة الأمم المتحدة تدعو فيه إسرائيل للانسحاب من المناطق الفلسطينية التي اجتاحتها مؤخرا، وقد فسر كولن باول إن ذلك يعني «الانسحاب فورا»، كما دعا القرار إلى ضرورة إنهاء «الإرهاب» الفلسطيني حالا ولكن الإرهاب الإسرائيلي الأكثر تطرفا والذي يعود إلى 35 عاما بامكانه التريث.!!! وبعد صدور القرار فورا قامت إسرائيل بتصعيد هجماتها على الأراضي الفلسطينية مجبرة باول وزير الخارجية الأمريكية على القول: «إنني مسرور بأن رئيس الوزراء شارون يقول أنه سيحد من عملياته وهناك الكثير من الشكوك بأن تأخير وصول كولن باول إلى إسرائيل كان من أجل أن يتمكن شارون من إتمام حملته بسرعة أكبر. إلا أن الموقف الأمريكي هذا ممكن أن يتغير مرة ثانية و لأسباب تكتيكية.
فقد سمحت الولايات المتحدة أيضا لهيئة الأمم المتحدة بإصدار قرار يدعو بإنشاء الدولة الفلسطينية، وهذه الإشارة أيضا لا ترتقي إلى المستوى الذي وصلت إليه الأمور في جنوب افريقيا قبل 45 سنة عندما قام نظام التفرقة العنصرية فعليا بتطبيق «رؤيا ه» لدولة يديرها السود والتي كانت على الأقل قابلة للتطبيق وشرعية كالتي تخطط الولايات المتحدة وإسرائيل لتطبيقها في المناطق المحتلة.
وفي هذه الأثناء استمرت الولايات المتحدة في «تقوية الإرهاب» وباستخدام كلمات الرئيس بوش من أجل تزويد إسرائيل بأساليب الإرهاب والدمار بما في ذلك شحنات جديدة من طائرات الهيلوكبتر الأكثر تطورا في الترسانة الجوية الأمريكية (طبقا لما جاء في مقالة روبرت فيسك في السابع من أبريل) وهذه ردود فعل قياسية للوحشية من قبل نظام عميل، وللوقوف على مثل حي، ففي الأيام الأولى للانتفاضة، قامت إسرائيل باستخدام طائرات الهيلوكوبتر الامريكية بمهاجمة أهداف مدنية و قتل عشرة فلسطينيين وجرح 35 آخرين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، وقد جاء رد كلينتون على ذلك بتوقيع اتفاقية من أجل إتمام اكبر صفقة بيع لطائرات الهيلوكبتر العسكرية للقوات الجوية الإسرائيلية منذ عقود (طبقا لما أوردته صحيفة هآرتس في الثالث من أكتوبر عام 2001)، بما فيها من قطع غيار لطائرات الهيلوكبتر من نوع آباتشي، وقد ساعدت الصحافة في ذلك من خلال رفضها ذكر هذه الحقائق، وبعد أسابيع قليلة بدأت إسرائيل باستخدام هذه الطائرات في عمليات الاغتيال أيضا، وقد كان أحد ردود الفعل لدى إدارة الرئيس بوش هي إرسال طائرات آبا تشي من أكثر الأنواع الفتاكة الموجودة لدى الأمريكين، وقد قامت الصحافة بذكر ذلك على شكل ملاحظات هامشية ضمن زاوية الأخبار الاقتصادية.
ان التزام واشنطن «بتقوية الإرهاب» كان قد وضح ثانية في كانون أول عندما صوتت على قرار لمجلس الأمن يدعو إلى تطبيق خطة ميتشل والى نشر مراقبين دوليين لمراقبة أعمال العنف، ان أكثر المبادرات التي طرحت من أجل إيجاد تسوية للنزاع العربي الإسرائيلي كما تم الاعتراف بها تمت معارضتها من قبل إسرائيل و إعاقتها أيضا و بانتظام من قبل واشنطن.
وقد صدر القرار خلال فترة 21 يوماً من الهدوء النسبي ويعني ذلك قتل جندي إسرائيلي واحد ومقتل 21 فلسطينياً منهم 11 طفلاً وحصلت خلال هذه الفترة 16 عملية هجوم على المناطق الواقعة تحت السيطرة الفلسطينية (طبقا لما أورده غرام آشر في صحيفة الشرق الأوسط الدولية في 25 كانون ثاني عام 2002)، وقبل عشرة أيام من التصويت الامريكي على القرار قامت الولايات المتحدة بمقاطعة والتقليل من شأن المؤتمر الدولي الذي عقد في جنيف والذي دعا مرة أخرى إلى ضرورة تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بالأراضي المحتلة وبعبارات بسيطة فان هذا يعني أن كل ما تقوم به الولايات المتحدة وإسرائيل عبارة عن «خرق خطير» و«جرائم حرب».
وقد أعلن المؤتمر وبالتحديد إن التمويل الأمريكي للاستيطان الإسرائيلي غيرشرعي كما شجب عمليات القتل المتعمد والتعذيب وعمليات الإبعاد غير الشرعية والسجن بدون محاكمات شرعية عادلة وسلب وتدمير الممتلكات وجميع الأعمال التي تنفذها إسرائيل بشكل غير قانوني، وكشريك قوي فان الولايات المتحدة ملزمة من قبل هذه المعاهدة بتنفيذ هذه المسؤوليات للحد من وقوع هذه الجرائم، بما في ذلك قيادتها وكالعادة فقد حصل ذلك بصمت.
كل هذه الأمور أعادت إلى الذاكرة أيضا مساهمة الولايات المتحدة مرة أخرى في «دعم إرهاب»، وحتى يتم السماح بمناقشة هذه المواضيع وفهم نتائجها التي ستبقى بلا معنى حتى يتم دعوة الولايات المتحدة إلى التدخل الحقيقي في عملية السلام والا ستظل فرص تحقيق عمل بناء ضئيلة جدا.
* كاتب ومؤرخ يهودي، خدمة الجزيرة الصحفية |