لم تبق مجزرةجنين ومقابرها الجماعية تراباً لنا لدفن الرؤوس بدعوى الموازنة بين قوة العاصفة وسلامة النعام.
فمجزرة جنين جردت جيلنا من تلك الأعذار الغامضة التي طالما تعلل بها أو اختبأ خلفها جيل من الأجداد والآباء على مستوى القيادات والشعوب معاً عندما يجري الحديث عن مجزرة خان يونس وكفر قاسم وقبيه حيث كان بالامكان القول إن أخبار المجازر لم تصل إليهم إلا بعد نهش الطير لحوم الشهداء التي كان العدو الإسرائيلي يتركها عمداً في العراء شاهداً على وحشيته وتحذيرا منها. وكان التأخر في وصول الأخبار يُعزى إلى ضعف وسائل الاتصال في ذلك الوقت وانعدام أي مصدر للمعلومات فيما عدا أجهزة راديو محدودة العدد محدودة الإرسال قصيرة الموجات يسترق السمع إليها من بيوت الجيران الموسرة أو مقاهي الأحياء.
وإن كانت تهمة الجهل أستر لتلك الأجيال من فضيحة مجزرة جنين التي مني بها جيلنا اليوم على مرأى من العالم أمام المفارقة القاتلة بين ثورة الاتصالات وعجزنا المريع عن فعل شيء أي شيء لإيقاف المجزرة.
فمجزرة جنين لاتترك مجالا لأي منا كما كان الأمر في مجزرة صبرا وشاتيلا قبل عشرين عاماً لأن نقول جاءت المجزرة على حين غرة في جنح الظلام وكنا لا نستطيع أن نرى إلا ما تريده عيون كاميرات وكالات الأنباء الأجنبية ورقباء محطات البث التلفزيوني المحلي في هذا القطر أو ذاك.
إن مجزرة جنين وبالمقياس الإعلامي وحده ناهيك عن أي قياس أخلاقي أو سياسي آخر تجردنا حكومات وشعوباً رجالاً ونساء، مثقفين ومجالس شورى وبرلمانات من أبسط الأعذار لتبرير الجبن والعجز الذي تحلينا به حيال وحشية أحداثها التي كانت تجرى أمام أعيننا لحظة بلحظة، كما تجرد الأدلة الدامغة المتهم من البراءة.
تعرينا مجزرة جنين أمام المرآة من أرق أوراق التوت أو التين التي قد يلجأ إليها الخجلون من سوءات أفعالهم كما تعري عوامل التعرية الضارية الصخر من شموخه مع فارق أننا لا نجد ما نستر به سوءات صمتنا وعدم قدرتنا على الفعل.تكشف مجزرة جنين حدبة ظهورنا أمام العدو والصديق كما تكشف ظهيرة الصحراء ظهور المطايا أو كما تكشف الأقمار الصناعية أسرار الدول وتصدعات الجبال. تهتك مجزرة جنين ترهل أوهامنا، بيأس مفاصلنا وانكسار عيوننا كما تهتك الشمس حلكة الليل أو كما تهتك الفيروسات الإلكترونية حرمة ملفات الكمبيوتر السرية بلغة ما بعد الحداثة.
* لم تكن مجزرة جنين مفاجأة!!
كان تاريخ شارون الدموي يعيش بشهوة الجزار لتفحم لحوم الضحايا قبل وقوع المجزرة.
كان التاريخ الإرهابي لدولة العدو الإسرائيلي والذي لم يكن ليؤسس استعماره الاستيطاني على أرض فلسطين لو لم تكن المجازر جزء عزيز من أيدولوجيته السياسية يفوح برائحة تلك الغرائز الوحشية التي يتمتع بها العدو.
كان هناك زخم الانتفاضة يوشك أن يخل بميزان القوى على الأرض بين جنود الجيش النظامي للعدو الإسرائيلي المدجج بالسلاح الأمريكي وبين العشب البري الشائك لبراعم الشهداء من الشعب الفلسطيني الذي لا سلاح عنده إلا سلاح الإيمان بعدالة وأخلاقية قضيته وكان مقابل ذلك العنفوان الشعب العفوي جزر الأنظمة العربية الذي يغري معسكر الأعداء ومدعي الصداقة العربية بامكان التكالب على كسر شوكة الانتفاضة ولي أعناق براعمها بكل أشكال التنكيل والحصار والتذبيح دون تدخل أي من تلك الأنظمة التي لا تحتزى.كان الغطاء الجوي السياسي والعسكري والدبلوماسي لحرب أمريكا على الإرهاب كافيا لارتكاب العدو للمجزرة بأعصاب باردة كفصل من فصول تلك الحرب الأمريكية.
* لم نكن نجهل وقوع المجزرة.
كانت هناك النداءات والاستغاثات تصلنا صرخاتها المرعوبة على أجهزة الجوالات عبر الفضائيات بوضوح لا يعجز عن سماعه إلا الموتى.كانت حناجر المحتجزين والمحاصرين بالمئات في معتقلات جماعية أسوأ من الأفران النازية داخل شقق صغيرة معدة للنسف تصم الآذان إلا لمن فقد حاسة السمع وفرط في أبسط إحساس بالكرامة.
كانت أصوات الأطفال والمعاقين والمسنين والرضع والخدج الذين ولدوا بفعل الرعب والتعذيب قبل موعدهم تخرج من تحت الأنقاض وترج عظامنا.
كان هدير الجرافات وانهيار المتاجر والمنازل والملاجئ على المدنيين يهز أعمدة القصور الفارهة التي يقبع بين جدرانها قادة العرب من المحيط إلى الخليج في حالة من العجز والجبن الذي لم ولن يسجل التاريخ مثله لسواهم.
لم تكن المشكلة هذه المرة أن ضحايا المجزرة لم يدقوا جدار الصهريج فقد دقوا و دقوا ودقوا حتى اهترأت أكفهم وانبرت عظامهم كما لم تكن المشكلة أننا لم نسمع صوت اصطفاف جماجمهم بحديد السلاح الأمريكي أو لم نر دماء الأطفال على أظلاف شارون وجيشه.. كانت المشكلة ببساطة مخجلة أن كلاً منا أنظمة وشعوباً قد التف أو أخذ يرفل في صدأ صهريجه الاقليمي إما خوفاً من تهمة الإرهاب أو رجاء في قبض أثمان مؤازرة حربها بعد 11 سبتمبر وإن كان داء العزلة القطرية والجبن الاجتماعي قد أصابنا قبل ذلك بكثير ربما قبل حرب الخليج الثانية.
ولذا فلا الأنظمة كانت بقدرة قادر وبمجرد وقوع مجزرة جنين على استعداد للتحول من خيار الحلول السلمية التي ارتضتها بالاجماع إلى خيار الحرب ولا الشعوب التي لم تعتد التأثير على قرار إداري صغير في شؤونها اليومية كانت قادرة على تشكيل قوة ضغط تؤثر في القرار السياسي أو تغيير مساراته. فكانت مجزرة جنين بعضاً مما جنته أيدينا ومثالاً فاضحاً على اختلال العلاقة بين القيادات والشعوب بما سيتيح الفرصة لو لم يستدرك لجنين أخرى وأخرى تذهب أبعد من الوطن المحتل ودول الطوق.
هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|