Thursday 18th April,200210794العددالخميس 5 ,صفر 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

جماليات اللغة عند حمد الجاسر «من سوائح الذكريات» نموذجاً جماليات اللغة عند حمد الجاسر «من سوائح الذكريات» نموذجاً
منصور بن عبدالعزيز المهوس

يمتلك الجاسر في كتاباته الأدبية بنية لغوية تمنح القارئ دلالات مفتوحة غير أحادية، منسجمة مع شكل الخطاب، ومرتبطة في الوقت نفسه بطبيعتها التعددية، كما أن هذه اللغة تتمرد من الارتماء في أحضان أساليب لغوية أجنبية، فنهر لغته صافٍ لم يتسرب إلى بنيتها اللفظية والتركيبية أي لفظة أسلوبية أجنبية والتي تعود الخطاب الأدبي العربي على تقبلها دون اكتراث تحت غطاء التيسير أو التطوير. فالجاسر «رحمه الله» يحمل معجماً يكشف الخصائص الأسلوبية الدالة عليه والمبنية عن سر صناعة الكتابة عنده، هذا المعجم يفرِّد الجاسر ببنية لغوية قلَّ أن نجد المثيل لها في معاصريه..
وتتمتع لغته بالقدرة على التشكيل وذلك من خلال التصوير والتكوين بمستوياتها الدلالية والتركيبية والصوتية واللفظية، وتبرز جمالية اللغة في كتاباته الأدبية التي سطرها تحت عنوان «من سوانح الذكريات» التي نشرها في مجلة «المجلة العربية» وقد ضمنها سيرته الذاتية (1)
نأخذ نموذجين تطبيقيين يتجلى من خلالهما جماليات اللغة لديه.
النموذج الأول: أنه عين مدرساً في مدينة ينبع، وتأخرت الرواتب بضعة شهور وكاد أن ينفد ما معه من مال:
«قد بقي لدي ما يزيد على خمسين جنيهاً ذهباً، وكان به سداد من عوز في تلك الأيام الحرجة .. كنت أضع النقود في حقيبة أضعت مفتاح قفلها حين انتقلت إلى المدرسة، وإذن فلا ينبغي ابقاء النقود في حقيبة مفتوحة، فكيف تحفظ؟ فكرة دفن النقود أقرب ما يخطر بالبال.. في مدخل الحجرة خارجها أرضاً هشة، بمعالجتها يمكن توسيعها وتعميقها بالقدر الذي يخفى كيس النقود الصغيرة.. وفي إحدى المرات طرق باب المدرسة قبل العصر، في وقت أكون مرتاحاً فيه أغلب الأوقات، وعلى عجل سويت ما برز من تراب الحفرة، واستقبلت الزائر، ثم انصرف، ولكنني في صبيحة اليوم الثاني حيث وضعت قدمي فوق الموضع كما اعتدت، أحسست فيه انخفاضاً وليونة! يا الله ما هذا؟! ليس في الحفرة سوى التراب! لقد كان ما كان، مما أثار الأشجان، وأعقب الأحزان! ويمضي الشهر والشهران والثلاثة، وصرف الرواتب يتأخر، والحاجة تشتد مما اضطرني إلى التفكير في أنفس عِلْق في الجعبة، وما هو سوى الكتاب الذي افتتحت الحديث بتعريفه إنه أنيس وحدتي تلك الأيام، ومبعث سلوتي، أتراني أقدر على استرخاصه، والاستغناء عنه بهذه السهولة؟ ولكنها الفاقة التي لا ترحم» (2).
في هذا النموذج نلاحظ بأن هناك مرسلاً ومرسلاً إليه، وعلاقة قائمة بينهما وهي المضمون، والشفرة الحاملة لهذا المضمون وهي اللغة المتوهجة التي يسميها البعض لغة فوق اللغة، لقد رسم الكاتب في هذا الموقف أبعاد شخصيته، وبيان أثر الحدث في داخلها، فنلحظ أن اللغة كانت قبل لحظة التأزم متدفقة في هدوء، قائمة على مستوى واحد، لكن عندما وصل الحدث لحظة التأزم، نلحظ أنها تغيرت، وأصبحت أكثر حركة، استجابة لتغير العالم الداخلي؛ حيث الاضطراب، تفاعلاً مع الخارج، مجسدة الدلالة التعبيرية للشخصية بكثير من الانفعالات النفسية، فالهم طوقها، والكرب أمضَّها مما آلم الفؤاد وأوجعه..
يقول «الرِّجل تتحسس» هذه الحركة الخارجية الحسية يتكشف عنها مشاركة القلب بها، في عملية التحسس، فالقلب يرسل اشارات نبض معينة، تعرف بها الشخصية مدى وجود المال في مكانه، داخل الشخصية ملتحم بخارجها في هذا العمل.
ويقول «أحسست فيه انخفاضاً وليونة ، يالله ماهذا» هذه التيمة تضفي الحركة علي الحدث حيث الداخل والخارج، يتفاعلان مع هذا الأمر، عن طريق هذا التعجب والاستفهام، اللذين يكشفان هلع الكاتب بهذا الحقيقة، ثم بتبعه بالتكرار «التراب.. التراب» تكرار ينضح بالدهشة والذهول، حزم صوتية تبث ذبذبات شعورية، ويحاول الكاتب التماسك واعادة التوازن معتمداً على هذا السجع المقبول، الذي يمنح الكاتب نوعاً من التنفيس، حيث مد الصوت بحرف الألف ثم الاتكاء على حرف النون،ومن شدة احساسه بما نزل به، يبحث عن مشارك له في بلواه ليخفف من وطأة الألم، فيلتفت إلى المخاطب، ملقياً عليه سؤالاً يعرف اجابته سلفاً «وما هو إلا سوى الكتاب الذي.. أتراني أقدر على بيعه» وهكذا نشاهد تغير النسيج اللغوي لدى الكاتب طبقاً لمقتضيات الحدث وتداعيات الموقف، واستجابة لإحساس الباطن الذي سببه الخارج..
النموذج الثاني: يرسم الكاتب احدى الشخصيات، في موقف حرج تتعرض له، وهي شخصية خاله، والموقف في حالة الصرع التي كانت تنتابه بين الفينة والأخرى:
«قد يكون في أثناء الصلاة، فما يشعر من في جواره إلا بسقوط الرجل على الأرض، كأشد ما يسقط من يرمى به من مكان شاهق، ثم يعلو شخيره، وتجحظ عيناه، ويهتز كل عضو من أعضائه، ويمكث على هذه الحالة نحو الساعة، حتى يبدأه الهدوء شيئاً فشيئاً، فيتصبب العرق من جسمه، بعد أن يفحص الأرض بأحد أصابع يديه أو رجليه بعنف، كأنه يريد ادخال الأصبع فيها، ثم يفيق بدون أن يحس بشيء مما جرى منه، ولا بما اعترى ذلك الجسم من لكم وضرب، أو وجه لذلك الوجه الطاهر من نفث مُشاب بغيره» (3).
أتى هذا الرسم متقناً، عبرت عنه هذه اللغة الرصينة والتي تحمل عدداً من الاحساسات، فهذا الأسلوب البياني، «التشبيه» يصور شدة وقوعها على الأرض، الأمر الذي يجعلنا نتفاعل مع حالة هذه الشخصية «كأشد ما يسقط من يرمى به من مكان شاهق» (4). يتبادر إلى الذهن أن هذا التشبيه مبالغ فيه لكن إذا تأملنا مدى أثر هذا الخال على الكاتب، وحبه له، عندها ندرك أن هذا السقوط العنيف في المشبه به، يشبه إلى حد كبير السقوط الذي يحسه الكاتب في نفسه، من شدة حزنه على خاله، وعمق تأثره بهذه الحالة السيئة التي يمر بها خاله، وقد أكد هذا المعنى بأفعل التفضيل «كأشد»، وكذلك بأنه «يرمى» وليس« يسقط»، بل يرمى رمياً، ليس له فيه خيار، ثم بنى هذا الفعل للمجهول؛ إذ المحزن للكاتب أشد الحزن، هيئة السقوط، وهو يشاهد هذا المنظر ولا حول له ولا قوة.
ونشاهد هذا الاصرار على المضارع؛ حيث يجعلنا نستحضر الحدث، وكأننا نراه الآن، «يعلو، تجحظ، يهتز، يمكث، يبدأه، يتصبب، يفحص، يفيق...» ثم هذا التجانس ««وجَّه، الوجه» والذي منح العبارة تكراراً للاهتزازات الشعورية، كذلك الكتابة عن أشياء لا يحسن ذكرها في قوله: «ونفث مشاب بغيره».
فلغة حمد الجاسر «رحمه الله» تتلون بخصوصية تمنحها التفرد أو على أقل تقدير تجعل لغته نسقاً لا ينتمي إلى أحد غيره من معاصريه..

(1) المجلة العربية، الأعداد من 103 شعبان 1406ه محرم 1415ه. ثم توقف «رحمه الله» قرابة السنة ليعود في عدد محرم 1416ه إلى ربيع الآخر 1416ه.
(2) المجلة العربية ع 166/ ذو القعدة 1411ه ص 32.
(3)المجلة العربية ع/129 شوال 1408ه ص 8.
(4) المجلة العربية ع/129 شوال 1408ه ص 6

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير إدارة المعلومات
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved