لم يعد خافياً على أحد فشل النظام العربي الرسمي في التعامل مع العدوان الإسرائيلي البشع على الشعب الفلسطيني، وحالة الضعف المسيطر على العالم العربي إزاء استمرار الاعتداءات الوحشية التي يزيدها مرور الأيام قسوة وإجراماً.
فحرب الإبادة المنهجية التي تقوم بها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحقد عنصري لا حدود له من عمليات إعدام عشوائية واعتقالات جماعية، وعمليات التدمير لكل مظاهر الحياة وذلك بهدف إذلال الشعب الفلسطيني وتدمير بنيته البشرية والتحتية، وكسر روح المقاومة والصمود التي يتميز بها هذا الشعب المجاهد، واستهداف الرئيس ياسر عرفات شخصياً باقتحام مقره ومحاصرته، ما كانت تتم بدون ضوء أخضر أمريكي والتي أكدتها التصريحات المستهجنة التي أدلى بها الرئيس الأمريكي جورج بوش مع بداية العدوان الإسرائيلي، والتي أعطى فيها الضوء الأخضر لشارون باستمرار وتصعيد العدوان الوحشي.
والمثير للغرابة أن تصريحات بوش جاءت بعد أن أجرى اتصالات مع العديد من القادة العرب الذين ناشدوه التدخل لوقف العدوان!
في فلسطين المحتلة اليوم مواجهة صريحة وواضحة لا تحتاج إلى جدل أو اجتهاد أو فلسفة من هنا وهناك، ما يجري مواجهة بين الحق والباطل، بين عدو غاصب وشعب آمن، بين عدو مدعوم من قوى الظلم والطغيان وشعب يدافع عن أرضه وحقه في الحياة.
إن العالم العربي والإسلامي وهو يشاهد هذا الصمت العربي الرسمي المريب إزاء ما يتعرض له إخوان لهم في الدين والدم والعقيدة، إنما يسترجع قصص أجدادنا السابقين الذين رفضوا الصمت على الظلم الذي يتعرض له المسلمون، والتاريخ العربي والإسلامي المجيد يذكر لنا قصة أعرابية أحاط بها الخصوص فلا يعجب الرومي المعتدي أن يرى هذه المرأة العربية فرحة بأهلها وأرضها فيعتدي عليها متجاوزاً حدود الحق، فلا تعرف هذه المرأة غير نداء واحد: «وا معتصماه».
سمع المعتصم أمير المؤمنين باستغاثة المرأة العربية فجاءها المدد، وكانت معركة عمورية العظيمة تلبية لصرخة امرأة عربية مؤمنة يلقن فيها المعتصم خصوم الحق درساً في الأدب والأخلاق لا يزال يرن في أعماق الروم حتى اليوم.. وتتباهى النساء العربيات دائماً بالمعتصم وهن يخضن معاركهن البطولية ضد أعداء الحق والأرض والإنسان.. وحين حاول يهودي تاجر أن يكشف عن ساق امرأة مسلمة تبتاع منه، يتدافع المسلمون من كل حدب وصوب، ويلقنون اليهود درساً في الكرامة والشرف لا يزالون يحفظونه حتى اليوم حين يذكرون المسلمين السابقين، ويذكرون ذلك الشموخ العربي والغيرة العربية على العرض والشرف والإباء الذي يتمتع به رجال العرب ونساؤهم، والوفاء الذي جبلوا عليه أباً عن جد.. وسطروا به تاريخاً ماجداً.
أما الصورة الحالية فهي حزينة ومؤسفة لا تنتمي للعروبة ولا للإسلام، وليس فيها إلا الألم والأسى، فالحال غير الحال، والدم غير الدم.. والشرف غير الشرف والعرض غير العرض.. وهيهات أن يلتقي هذا الزمان بذلك الزمان!
الشعب العربي الفلسطيني يحاول جهده ويقاتل هذه الأيام بما يستطيع ويملك من إمكانات محدودة، كما حدث في جميع ثورات الشعب الفلسطيني ضد الغازي منذ أكثر من قرن، ونذكر جميعاً كيف تدافع الشباب والشيوخ والنساء إلى الجهاد، المرأة تبيع ما تتزين به من الذهب والفضة لتشتري لابنها السلاح يقاتل به، والفتى جنباً إلى جنب مع المجاهدين يتعلم منهم ويدافع عن الوطن معهم.
النساء العربيات في فلسطين المباركة يخرجن إلى الساحة مدافعات عن القدس والأقصى والصخرة المشرفة.. ويحمين بأرواحهن المقدسات من عبث الصهاينة ورجس عتاة الظلم، والعدو الصهيوني لا يرحم النسوة ولا يرعى ذمة.. فها هو الجيش «الذي لا يقهر»، والمدجج بأحدث أسلحة الدمار الأمريكية يمسكون بالمرأة الفلسطينية ويلقون بها إلى الأرض، وتخرج الفتاة الفلسطينية الأخرى تدافع عنها ويندفع ابنها وأخوها وأبوها وجارها من أبناء فلسطين ليحموا تلك المرأة التي يمسك بها جنود العدو.. ويتوالى المشهد ويحتدم الصدام.. ويمضي الشباب والنساء إلى لقاء الله بعد أن عهدوا بدمائهم طريق الحق والنصر..
أما نحن العرب.. وأعرباه.. وا.. إسلاماه.. واأختاه.. وا..وا.. وا...
فالمشهد لا يحرك ساكناً ولا يؤرق عيناً، لا يذرف دمعة.. لقد فقدنا حتى عهد الشرف والكرامة.. ونسينا ونحن نحسن المتعة بالمناظر تاريخ الأجداد.. أولئك القوم الذين سمعوا امرأة تستنجد بالمعتصم فكانت عمورية انتصار المسلمين على الروم وارتفاع شوكة الابادة على الطغاة.. وأما اليوم فليس لنا إلا أن نتساءل بمرارة: هل نحن من نسل قوم المعتصم أم نحن من غير هؤلاء القوم..؟
إن المطلوب من النظام العربي الرسمي في مواجهة العدوان الإسرائيلي والاستهتار الأمريكي بمقدرات الأمة، هو إعادة النظر في الأساليب السياسية التي يتبعها هذا النظام والتي ثبت فشلها، وبناء استراتيجية عربية جادة للضغط على الولايات المتحدة راعية العدوان الإسرائيلي، والشريكة على قدر المساواة في أوسع عدوان يتعرض له الشعب الفلسطيني.
وأعيد للتاريخ ما قاله الحاج أمين الحسيني أمام مثل هذه الأيام من أيام فلسطين الثائرة.. يوم الإضراب الكبير عام 1936م محذراً العرب والمسلمين قائلاً:
«إن أهل هذه البلاد المقدسة يستنجدونكم فأدركوهم.. قبل أن تصبح فلسطين أندلس ثانية.. حينها لا ينفع بكاء ولا ندم. إن أهل هذه البلاد يقارعون ظلم الاستعمار كما أنهم يقارعون العالم اليهودي بأسره الذي يدفع بأمواله ورجاله إلى هذه البلاد المقدسة.. العربية بأسرها ويمزقها شر تمزيق».
ونحن إذ نذكر، لا بد أن نذكر أن ما حذر منه الرئيس ياسر عرفات أكثر من مرة في بيروت وطرابلس، ولبنان.. «أن البركان كامن.. والزلزال يبدأ من هناك.. من فلسطين يبدأ السلم ومن فلسطين تندلع الحرب.. فلا تتركونا نقول.. يا وحدنا.. فالخطر داهم.. اللهم إني قد بلغت.. اللهم فاشهد».
* نائب المدير الإقليمي للاتحاد العالمي للإعلام واستطلاعات الرأي لندن |