أثناء انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي بتاريخ 30 فبراير 2002م بنيويورك والذي أقيم منذ شهرين وشارك فيه أعداد غفيرة من رجالات الفكر والاقتصاد والسياسة والقيادة في العالم أجمع، لفت نظري مقال في جريدة «الهرالدتربيون» Herald Tribune بتاريخ 2، 3 فبراير 2002م تحت عنوان «نابليون على أبواب رام الله: غلطة ارييل شارون» للكاتب اليهودي داعية ورئيس بعثة السلام المقيم في فلسطين المحتلة «يوري أفينيري» ربط فيه بين حال وظروف نابليون بونابرت عندما دخل موسكو كما أورد ذلك «تولوستوي» في روايته الشهيرة الحرب والسلام وبين شارون الذي كان لايزال يحاصر بدباباته ومجنزراته مدينة رام الله العاصمة السياسية المؤقتة للسلطة الوطنية الفلسطينية، حيث أورد السيناريو الذي يدور في ذهن القادة الإسرائيليين لاقتحام مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية وتدميرها، وشدد على تصميم «شارون» على ذلك تحت ذريعة محاربة «الإرهاب» وخلص في مقالته إلى ان بإمكان هذا المغامر ان يفعل ما يخطط له وربما بطاقة تدميرية أكبر مما هو متوقع اقليميا وعالمياً، إلا انه في النهاية سوف يصطدم بالصمود الفلسطيني الذي سيتحطم على صخرته تماماً كما تحطم نابليون وقواته على صخرة وثلوج موسكو بعد احتلالها.ولعل أغرب ما جاء في تلك المقالة هو المفارقة العجيبة التي ربطت بين «كتوسوف» القائد الروسي الذي جلس على تلة عالية يراقب سير المعركة والتدمير الذي يحصل لموسكو حيث كان مبتسماً معظم الوقت ومطمئناً إلى النتيجة، وهو ما حدث للرئيس ياسر عرفات الذي عزل تماماً في الطابق الثاني من مقر الرئاسة الفلسطينية في رام الله، وجلس يراقب سير العمليات الإسرائيلية التدميرية للبنى التحتية لسلطته ربما غير مبتسم إلا أن هذه القوات سوف ترحل عن مدن وقرى الدولة الفلسطينية المقبلة عاجلاً أم آجلا وتكتمل دائرة المفارقة هذه حين توقع الكاتب ان تتكرر مذابح صبرا وشاتيلا في مكان ما من الضفة الغربية وغزة، وأعاد إلى الأذهان اجتماعه قبيل تلك المذابح بالرئيس الفلسطيني في بيروت عام 1982م منبهاً إلى ان التاريخ سوف يتكرر بذات المآسي وذات الصمت والهروب العالمي من المسؤولية الأخلاقية عما سوف يجري.
الذي قرأ تلك المقالة وشاهد ما يحدث الآن وتحديداً في رام الله حيث الزعيم الفلسطيني محاصر ومعزول وفي نابلس ومخيم جنين حيث المذابح وصلت قذارتها إلى حدودها القصوى، الذي قرأ تلك المقالة لا بد وان يشعر أو يدرك ان الذي يحدث ليس إلا إعادة لمشاهد سابقة تكاد تكون متطابقة، وبلسان يهودي فصيح.كيف يمكن لنا ان نعايش أكثر من تجربة مريرة مع هذا الكيان الصهيوني بجرائمه المتكررة والتي تأتي صورة طبق الأصل عن سابقتها، ويتم التصريح بها أو التلميح إليها قبل حدوثها، ولا نأخذ العبر، أو نعد الخطوة المقابلة لذلك كنوع من الفعل الاحترازي على الأقل، إذا كنا لا نملك ونحن كذلك خططاً استراتيجية لمواجهة عدونا التاريخي الذي تمتد أطماعه إلى خارج الحدود الجغرافية لفلسطين!!.الذي يحزننا فعلاً ان كل ما نقوم به لا يعدو كونه ردات فعل انفعالية تارة، واجتهادية تارة أخرى، على الرغم من المحاولات الجادة لبعض الاستراتيجيات السياسية لبعض الدول العربية.
إن ما يحدث هذه الأيام من اتساع للهوة بين الشارع العربي والقيادات العربية ليس وليد الأحداث الجارية فحسب، لكنني اجزم انه نتيجة لتخطيط مسبق في الاستراتيجية الصهيونية الهادفة إلى زعزعة الأمن القومي العربي بغية فرض وتمرير السياسات المرسومة على هذا العالم بأكمله وتغذيها بعض وسائل الإعلام العربية بقصد أو بغير قصد.كما وأن ما يصاحب حركة الشارع العربي من علامات اليأس والفوضى إنما هو مؤشر على بداية حقيقية لتنفيذ خطة مدبرة لفرض واقع «العولمة» الجديد على المنطقة برمتها لا بالمعنى الحقيقي لكلمة العولمة، ولكن بالمعنى السياسي الاستعماري الجديد لهذه الكلمة.ما ورد في تلك المقالة من سيناريو جعلني أوجس في نفسي خيفة كبيرة، وحدا بي إلى ان احتفظ بتلك المقالة، وأضمها إلى مقالات أخرى مشابهة، ومنذ الحرب العالمية الأولى، التي إما لم نقرأها، أو أننا قرأناها ومررنا عليها مرور الكرام، لكننا استمتعنا بإضافتها إلى ارشيف التجارب المؤلمة التي عشناها ولم نتعلم بل ولم نعتبر من دروسها التي تكررت ولاتزال بينما نحن على ذات المقاعد في ذلك الصف الابتدائي الأول.. وتاليتها؟!!!.
|