Saturday 13th April,200210789العددالسبت 30 ,محرم 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

يارا يارا
بعد غيبة قصيرة
عبدالله بن بخيت

أصعب شيء أن يعود الانسان الى العمل مرة أخرى، أياً كان هذا العمل، بما في ذلك الكتابة. عودة الكاتب للكتابة تشبه الى حد كبير عودة لاعب الكورة الى الملاعب بعد انقطاع بسبب الاصابة أو التوقف أو خلاف ذلك من الأسباب. فالمخ يصاب بالترهل مثل العضلات، لذا يحتاج الكاتب الى وقت ليحقق التناغم الروتيني مع الورق، ويعيد الانسجام بين عضلات يده ومنتجات دماغه. فالكاتب في فترة التوقف يتحول من مفكر صامت الى مفكر صائت. أي أن يقول أفكاره باللسان بدلاً من القلم، وهذه مشكلة كبيرة. فالكاتب الذي يقول أفكاره بلسانه لا يستطيع أبداً أن يكتبها بالصورة الطبيعية. عملية الكتابة تختلف عن الكلام، تلاحظ ان كثيراً من الناس يرى انه قادر على الكتابة لمجرد أنه يحمل في رأسه أفكاراً كثيرة، ظانا أن الأفكار هي الوقود الرئيسي للكتابة. حسب تجربتي أرى دائما أن افكار الكتابة تختلف عن أفكار اللسان. فكثير من الكتاب يعرف هذا «باستثناء مداحي قرارات الحكومة وكتاب العرض حالجية».
يأتي الكاتب الى طاولة الكتابة وفي ذهنه فكرة لامعة وعظيمة. وما أن يواجه الورقة البيضاء حتى تهتز تلك الفكرة الرائعة وتتضاءل وتصبح غير صالحة للانتاج بالقلم. من تجربتي اكتشفت ان أفكار الكتابة تولد وتترعرع على الورق، في كثير من الأحيان أدخل مكتبي المنزلي وليس في ذهني أي فكرة أو حتى تصور عام عما سأكتبه بعد قليل. ولكن الصمت المخلص الموجه للعمل هو المحرض الأول على الكتابة. عادة أكتب كلمة واحدة: امرأة، فصفص، قتال، سريلانكا، قطاوة. أي كلمة تخطر على بالي تكون السر الذي يولد الكتابة. كأنما تلك الكلمة هي المفتاح الذي أدخل به في لجة الصمت. أشعر دائما ان الصمت مليء بالمواضيع العظيمة. الصمت مثل الظلام يفتح أفق خيالك، يجعلك تسافر الى المجهول، تتعرف على كل شيء في ذاكرتك، في ماضيك، في أحلامك، في عواطفك، حتى في مخاوفك. الحكايات العظيمة والخرافات والأساطير خلقت في الصمت والظلمة. خذ مثلا القصص المتعلقة بالجن. ستجد أنها مرتبطة بالصمت والظلام. لا يمكن لأحد ان يدعي أنه رأى جنيا في حراج ابن قاسم. ولكننا دائما نشاهد الجن في مقبرة، في خرابة، في بيت مهجور. ليس لأن الجني يحب الهدوء ولكن خيالك هو الذي يحتاج الى ذلك الهدوء. يحتاج الى الصمت حتى يعمل وينتج حكايات الجن والسكن.
في كل مرة التقي صديقاً يسألني عن سبب توقفي عن الكتابة مؤخرا. وبعد ان أبين له السبب يقول: أجل ما شاء الله رأسك مليان أفكار جديدة. بالعكس، التوقف يولد التوقف والكسل يولد الكسل بينما الكتابة هي التي تولد الكتابة. لا يوجد شيء اسمه مخزون أفكار. الروتين المستمر أساسي في الكتابة الجادة. تعودت ان أكتب يارا الساعة السابعة صباحا بعد ان آخذ أطفالي الى المدرسة. الساعة السابعة يعني الساعة السابعة وتكون جاهزة صالحة للقراءة الساعة العاشرة تماما. وعندما يختلف هذا الروتين إما بسبب اجازة أو بسبب التوقف احتاج الى وقت وجهد لاستعيد هذا الروتين المريح. آمنت دائما ان الكاتب الذي لا يوفر لنفسه تكنيكاً وروتيناً معيناً يموت بسرعة. يضعف ثم يضعف ثم يختفي. ثم يبحث عن مبرر لانقطاعه، الرقابة، الزمن الرديء الخ. عندما يبحث الكاتب عن مبرر لانقطاعه عن الكتابة من خارج ذاته، فهذا يعني انه لم يكن كاتبا أبداً.ألا تلاحظون أن مقالي هذا من أوله حتى آخره كله تنظير وتصفيف حكي، يعني ثقل دم. هذا يؤكد كلامي ويقيم الدليل على أن الكاتب إذا توقف فترة عن الكتابة يترهل.

فاكس 4702164

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير إدارة المعلومات
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved