ألا ما أصدق الرافعي في قوله: «كان في آدم سر وجود الإنسانية، وكان في محمد (صلى الله عليه وسلم) سر كمالها».
ذلك النبي المبعوث رحمة للعالمين وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، خاتم الأنبياء {ولّكٌن رَّسٍولّ اللَّهٌ وخّاتّمّ النَّبٌيٌَينّ..}[الأحزاب: 40]، {ومّا أّرًسّلًنّاكّ إلاَّ كّافَّةْ لٌَلنَّاسٌ بّشٌيرْا ونّذٌيرْا ولّكٌنَّ أّكًثّرّ النَّاسٌ لا يّعًلّمٍونّ} [سبأ: 28] ولذلك اختصت رسالته بالعالمية، أي: صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، لا تختص بقوم دون آخرين، ولا بمكان دون غيره {هٍوّ الذٌي أّرًسّلّ رّسٍولّهٍ بٌالًهٍدّى" ودٌينٌ الحّقٌَ لٌيٍظًهٌرّهٍ عّلّى الدٌَينٌ كٍلٌَهٌ ولّوً كّرٌهّ المٍشًرٌكٍونّ} [التوبة:33] وقد انفردت معجزته (القرآن) بالحفظ من التغيير والتحريف.
إن عالمية الرسالة تفرض ضرورة عصرية في التجديد من خلال معالجة ترفع الحرج عن هذا الدين العظيم، وتنطلق من حاجات المجتمع في حل كثير من المعوقات التي تصطدم بالواقع وفق مبادئ الشريعة السمحة... ويؤكد ذلك نجاحها في الأندلس وبلاد السند والهند وسمرقند وفارس، ولولا مرونتها لما استطاعت تلك الشعوب في مختلف الأرجاء الانصهار في المجتمع الإسلامي الذي يؤمن بالثوابت والتجديد في ظل عقيدة لا تقبل التنازل وأخلاق لا يُساوَم عليها وشرائع وحدود مطهرة.
قانون التجديد أصل قرآني وسنة كونية.. قال تعالى : {إنَّ اللَّهّ لا يٍغّيٌَرٍ مّا بٌقّوًمُ حّتَّى" يٍغّيٌَرٍوا مّا بٌأّنفٍسٌهٌمً} [الرعد: 11] {ذّلٌكّ بٌأّنَّ اللَّهّ لّمً يّكٍ مٍغّيٌَرْا نٌَعًمّةْ أّنًعّمّهّا عّلّى" قّوًمُ حّتَّى" يٍغّيٌَرٍوا مّا بٌأّنفٍسٌهٌمً} [الأنفال: 53] وقال المصطفى (صلى الله عليه وسلم) «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». ويكون ذلك من تفريقه بين السنة والبدعة، وإسقاطه النصوص على ا لواقع الجديد، ولا يمكن لعاقل ان يقف أمام هذا الإسقاط ليشمل التجديد في أمور الدنيا والاجتهاد في كثير من القضايا السياسية والمالية والاجتماعية والعلاقات الدولية لكي ينسجم المسلم مع واقعه، ولا يشعر بانفصام الجمود الذي تركز عليه بعض العقول التي تحارب أسباب التقدم، بل إنها تفسر ذلك معتمدة على نصوص شرعية كما يتصور لها، فيتوارى المسلم أمام الحضارة الحديثة بسبب عدم التفريق بين ما هو ثابت وما هو متغير.
هناك مجالات تركها الإسلام للعقل والاجتهاد والقياس انطلاقاً من عظمة هذا الدين، ينظمها الناس بما يتناسب مع مكانهم وزمانهم، وتكمن عظمة الإسلام أيضاً في ترك مجال لولاة الأمر ان يختاروا المصلحة التي يرونها ضرورة لحياة شعوبهم، وأعطاهم الحق في القتل تعزيراً وتطبيق ما يحفظ الأمن والاستقرار.
وما نراه ونسمعه يدل على ضحالة الفكر ورداءة الفهم، حينما يفترض بعض الناس من المجتمع ان يكون ملائكيا. لا يخطئ ولايذنب، ويركز على بعض السلبيات وينسى الإيجابيات الأخرى، ماذا لو أدرك هؤلاء الفاروق وعمر بن الخطاب؟ وهو يرفع حد الخمر من أربعين إلى ثمانين عندما رأى انتشاره بين المسلمين، لقالوا لا يحق له ان يرفع الحد؛ لأنه توقيفي لا يجوز ان يتصرف فيه أحد، وكيف يفسرون إسقاطه حد السرقة عام المجاعة، ولم يجد معارضة من الصحابة الفقهاء؛ لأنهم عالميون يستحقون حمل الرسالة العالمية..
وخالف في مسألة الطلاق لما رآه منتشراً بين المسلمين، فأمضى الطلاق بالثلاث في آخر خلافته تأديبا للناس... إنه تصرف بالإمامة التي لا يفهمها كثير من المبتدعة والمرتزقة.. فيكفِّرون ويثورون ويهيِّجون السذج والرعاع دون فهم لتصرفات الإمام المنوطة بمصلحة الأمة ومصلحة الجماعة، ماذا لو أدركوا عمر وقد أمر الناس بأكل وجبة واحدة... وبسبب الضحالة وحب الدنيا ثاروا على عثمان واستحلوا دمه الطاهر، وقتلوا علياً وغيره من الأئمة وكفّروا وعاثوا في الأمة ومصالحها.
إن القاعدة الفقهية (ارتكاب أخف المفسدتين دفعاً لأعلاهما) تختلف ظروف تطبيقها من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان، وهذا يدركه العلماء الربانيون (السلفيون) وحدهم.. فلا يحق لغيرهم الفتوى في شؤوننا. إن التجديد لا يشمل العقيدة وأركان الإسلام الخمسة والأخلاق والمحرمات وكل ما كان قطعي الثبوت من حدود وعبادات... ويجب على المسلمين ان يكونوا واثقين مثل ثقة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) حينما وعد سراقة بن مالك بسوار كسرى وهو في طريقه إلى المدينة مهاجراً... في تلك اللحظات التي تهزم الجبابرة، وتقف أمام طموحهم وتكليفهم لم يهزم هذا النبي المطارد من قبل قريش وكفارها الذين منحوا الجوائز والصلات لمن يعثر عليه... أتدرون لماذا؟
لأنه واثق بربه ثم بصدق رسالته، وطالما ردد النصر والفوز لصحابته، وأقسم لهم ان الله ليتمنّ هذا الأمر.. فلماذا كل هذا التشنج؟
نحن بحاجة إلى ان نتعامل مع النصوص من خلال الأئمة دون الاعتماد على فهمنا الذي يعتريه النقص والخلل، لا سلطة عندنا إلا للنص الصحيح، وما عدا ذلك لايعدو ان يكون من الجمود الفكري والمعوقات التي تفصل بيننا وبين هذا العالم، تلك المعوقات التي أثبتت أننا مهزومون في صراعاتنا وحروبنا وخطابنا العام حتى وصل الأمر ان خمسة ملايين يهودي يهزمون ملياراً وربع المليار..
لقد تداعت علينا الأمم من خلال خلل ما تجب إعادة صياغته وتدعيمه بنصوص القرآن والسنة وكنوز التراث لنصل في النهاية إلى إسلام واحد، وليس مائة إسلام كل منها يدعي وصلاً بليلى...
إن هذه المناهج التي تقبل التغيير والتطوير يجب تغييرها وتطويرها فيما يتفق مع منزلة الأمة وتاريخها؛ لأنها وسيلة من وسائل الهزيمة التي عصفت بالمجتمع الإسلامي، والأدهى من ذلك أن هناك من يدافع عنها ويريد استمرارها لتستمر الأمة في هزيمتها وهوانها من خلال خلفية مشحونة ونفسية متمردة، يسكنها الشك والفراغ والجمود وتفسير النصوص بما لا يمت لها بصلة.
أيها السادة: نحن بحاجة إلى التفاعل مع واقعنا ضمن المناهج الثابتة التي نعتقدها ونؤمن بها ولا نقبل المساومة عليها ابتداء وانتهاء، بحاجة إلى تشكيل لجان مختصة تؤدي هذا الدور بأمانة وإخلاص ولا نقف كثيراً عند عدد الساعات وقلتها؛ لأن ساعة قد ينفع الله بها أحسن من مئات الساعات الأخرى التي تتجاهل الأسس المعرفية والاجتماعية والنفسية، فالارتقاء بالعلم الشرعي مطلب، والهجوم الشرس عليه لا يعفينا من المسؤولية والبحث والمراجعة وقراءة الإفرازات قراءة دقيقة تعالج الأخطاء، والتركيز على أداء المعلم الذي يجب ان يراعي عناصر المنهج من أهداف ومحتوى ومصلحة وطريقة تدريس ووسيلة ونشاط ويوظف كل ذلك في خدمة الأمة واستقرارها والتركيز على الكتاب المدرسي الذي يجب ان يراعي الجانب النظري والتطبيقي والسلوكي، وحل المعضلات التي تسربت من خلالها الاحراجات التي عصفت بكرامة الأمة.. وإيضاح ما تجب معرفته من عقيدة الولاء والبراء وطريقة المسلمين الأوائل في تعاملهم مع الشعوب، وأن الإسلام لا يعني العبوس والشتم والتحديق والتكشير في الناس.. لأننا نتميز عن غيرنا بأننا عالميون، نختلف عن النصارى ونختلف عن اليهود؛ نحب الخير وندعو الناس إليه، وها هي مناهجهم التي استقت من توراتهم وإنجيلهم تعليمات العنف والإرهاب وتحقيق وعد الرب في زعمهم ولو بالجريمة، واعتمدوا في ذلك على التربية كما أشار مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل في يومياته عندما ركّز على الأناشيد الوطنية والدين والمسرحيات، وأكده أيضا بن غوريون أول رئيس لوزراء إسرائيل في المؤتمر الصهيوني الرابع والعشرين في عام 1956م عندما صرح بأنه لن يكون للحركة الصهيونية مستقبل بدون تربية وثقافة عبرية والتركيز على التوراة من أجل الصمود أمام التحديات، بل إن المادة الثانية من قانون التربية والتعليم الإسرائيلي تنص على إرساء الثقافة اليهودية.. ولذلك حرص التربويون على كثافة المعلومات التوراتية المعطاة لطلاب القسم الابتدائي إيماناً منهم بضرورة التشكيل في هذه السن المبكرة ثم توجه لنا ضرورة التحديث وينساهم المجتمع العالمي في تحدٍ صريح لطمس الحقائق التي تزرع الإرهاب وتفرضه أجيالهم ضد المسلمين.
إن إعادة النظر ليست عيباً وليست حراماً وليست جريمة بشرط ان تنطلق من ثوابت عقيدتنا ومزج ذلك بما يتناسب مع واقعنا، ويحفظ وحدتنا، ويحقق مشروعنا العظيم... ويبتعد بنا عن التطرف والإرهاب.
إن التربية الوطنية التي قررتها وزارة المعارف يجب ان تعمم على المواد الأخرى.. إنها ليست مجرد مادة يختبر فيها الطلاب بعد حفظها، لأنها سلوك في البيت والشارع والمدرسة، سلوك للأب والاستاذ والمدير يؤديها استاذ الرياضيات والجغرافيا واللغة العريبة... لا ترتبط بمقرر لا تتجاوز صفحاته الخمسين... بلا رسوب!!!
نعم نحن بحاجة ماسة إلى تكوين لجان على مستوى عالٍ من أساتذة العقيدة والشريعة واللغة والتربية لتؤلف لنا منهجاً جديداً يعتمد على تراث ناصع وفكر نظيف أو تكتفي باختيار أبواب من كتب تراثية عدة فالصحيح عدم التشنج أمام المراجعة والتطوير بما يناسب واقعنا وظروفنا.. قلت ذلك إبراء للذمة وأملاً في التصحيح.
الإمارات العربية المتحدة |