سطر الشعب الفلسطيني خلال الأيام الماضية، وحتى اللحظة ملحمة بطولية وفدائية منقطعة النظير، للذود عن أرضه وعرضه وحقه في الحياة، شهد له بذلك القاصي قبل الداني، العدو قبل الصديق، استطاع أن يمنع تقدم جيش بأكمله المزود بأحدث تقنيات السلاح وقدرتها الفائقة في الفتك والتدمير من دبابات ومصفحات وطائرات وجنود، حين وقف العدو الصهيوني مذعوراً أمام مداخل جنين ونابلس 9 أيام متتالية يتوارى خلف مصفحاته ويتسلح بالدروع البشرية من نساء وأطفال ومسنّين لكنه عجز طيلة هذه الأيام في اقتحام المخيمات، ولم يقدر على ذلك إلا بعد نفاد ذخيرة السلاح في أيدي المقاومة، بعدها تجاسر العدو في الاقتحام وارتكب مجزرة بشرية تضاهي مجزرة صبرا وشاتيلا لكنه قبل أن يقتحم المخيمات سقط منه قتلى عدة، وألحقت به الخسائر المادية والمعنوية.
وأنا لا أتحدث هنا عن الإجرام والنازية والمجازر البشرية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني الأعزل سواء بالإعدامات الفورية أو بتشديد الحصار وقطع الكهرباء والماء ومنع المواد التموينية والحليب للأطفال، فماتت الأجنة في بطون أمهاتهم، ومنع سيارات الإسعاف من نقل الجرحى للمستشفيات بل أغلق المستشفيات وألقى القبض على الأطقم الطبية، ونزف الجرحى في البيوت والشوارع حتى فاضت أرواحهم، ولم يسمح لهم بدفن الموتى من ضحاياهم، فكلها صور بشعة لمجرم نازي، تحدثت عنها الفضائيات ونقلتها لحظة بلحظة.
لكننا نتوقف هنا عند الجانب المضيء الذي صنعته الملحمة البطولية للشعب الفلسطيني في الدفاع عن مخيماته والالتفاف حول زعيمه والدفاع عن شرعيته وقيادته رغم أنه يعاني آلام الحصار والتجويع.
إن صورة هؤلاء الفدائيين وهم يدافعون عن أنفسهم وأهاليهم وأرضهم باقل الاسلحة وتواضعها بكل هذه البسالة وتمنع تقدم أكبر جيش في المنطقة بل مصنف بالثاني على المستوى العالمي بعد جيش الولايات المتحدة يجعلنا نتفاءل بأن النصر ليس بكمّ الأسلحة وكثرتها وتعدد أنواعها، ولكن يأتي بالروح العالية والعقيدة الراسخة التي يؤمن بها المرء لعدالة قضيته وإدراكه أنه لن يحظى بحياة مستقرة إلا إذا تصدى لهذه القوة الغاشمة وأحدث بها الخسائر وألحق بها الأضرار، وساهم في تبديد عزيمته وزرع الرعب والرهبة في قلوب جنودهم، وقد حدث ذلك بالفعل، وسمعنا عن جنود إسرائيليين هربوا من ساحة القتال، بل طالب الجيش بتعزيزات إضافية من قوات «النخبة» من أجل القدرة على اختراق المدن الفلسطينية.
إنه إيمان تولد في معنويات جيل الانتفاضة بضرورة صد العدوان ليس بالإدانة والشجب، ولكن بأقل الأسلحة المتوافرة وإيقاع الخسائر فيه وهزيمته معنوياً وسياسياً وافتقاده لروحه القتالية التي بدأت بالفعل بالتراجع والتقهقر، لدرجة أنه طالب بالهدنة ووقف إطلاق النار.. تخيلوا جيشاً يصنف بالثاني عالمياً يطالب من مجموعة شباب يستبسلون في الدفاع عن أرضهم بأسلحة بدائية ومتواضعة بوقف إطلاق النار.. إنه انتصار عسكري تحقق رغم كل ما يحدث من بشاعة من المحتل الغازي سيسجله التاريخ لأولئك الأبطال ضمن ملحمتهم البطولية في الدفاع عن أنفسهم.. وقد استحق هذا الشعب بالفعل أن يطلق عليه شعب الجبارين كما يحب أن يصفه زعيمهم ياسر عرفات.
هذه البطولة زعزعت من ثقة الجيش الإسرائيلي بنفسه كما أحدثت جدلاً واسعاً بين صفوف الإسرائيليين، خرجت خلالها الأسئلة كالطلقات المنهمرة من أفواههم، وتركزت الأسئلة عن جدوى هذا العدوان على الشعب الأعزل، وما هي المكتسبات التي سيجنيها الإسرائيليون من ورائها؟!،
وتلاحق قادتهم الأسئلة، كيف ننعم بالأمن وهناك من يقودنا بفكر همجي وعدواني ولا يملك معه أفقاً سياسياً؟.
وملحمة الأبطال جعلت الجدال الدائر حامي الوطيس، وها هي صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية تنشر يوم 4/4 أثناء الغزو الإسرائيلي استطلاعاً للرأي جاء فيه أن نسبة المستعدين للتنازل عن المستوطنات أكبر مما كانت عليه في أي وقت مضى، فحوالي 66% يؤيدون إخلاء كل المستوطنات في غزة، و70% يؤيدون إخلاء المستوطنات الموجودة في مناطق عربية مكتظة.. و52% يعتقدون أن المستوطنات تشكل عقبة أمام حل الصراع في الشرق الأوسط..
ويشكك يوسي ساريد، زعيم حزب ميريتس اليساري في نتائج هذه الهجمة ويقول: إن ما يجري سيؤثر سلباً على الإسرائيليين، مشيراً إلى أن تحرير الفلسطينيين من الاحتلال هو تحرير الإسرائيليين من عقلية المحتل.
ويضيف ساريد: حين يتحرر الفلسطينيون من الاحتلال الإسرائيلي سنخرج نحن أيضاً من العبودية إلى الخلاص.
الأمر لم يتوقف عند هجرة الإسرائيليين من المستوطنات والهروب من جحيمها، ولكن تصاعدت وتيرة المعارضة من الهجرة من المستوطنات إلى الهجرة من إسرائيل بأسرها وتركها لأمثال القتلة والسفاحين مثل شارون وطغمته، فقد تساءل كثيرون من داخل إسرائيل حول جدوى البقاء في هذه الدولة القلقة وممارسة القتل لفرض ارادتنا على شعب أعزل؟!.
فقد تزايدت نسبة الراغبين في الهجرة من إسرائيل الى حوالي 35%.. كما أن هناك مليون إسرائيلي يقيمون في الخارج 45 ألفاً منهم يقيمون بشكل دائم خارج إسرائيل من بينهم 250 ألفاً لا يملكون جوازات سفر سارية المفعول.
لم يكن هذا التغيير في نمط التفكير يحدث في داخل إسرائيل لولا بسالة شباب الانتفاضة الذين استطاعوا أن يغيروا من توازن القوى الذي كان لصالح إسرائيل، كما أنهم نفذوا لعقل الشعب الإسرائيلي فهو الآن يعيد حساباته ويراجع مواقفه ويطرحون الآن أسئلة قلقة كانت في السابق من الخطوط الحمراء والمحرمات في طرحها على الملأ. لكن بسالة هؤلاء الفدائيين واستمرارهم في التضحية بالنفس والنفيس لإجبار هذا المحتل لترك أرضه والإذعان للسلام العادل كان المحرك الفعلي لزعزعة قناعة الإسرائيلي بجدوى وجوده في دولة تمارس الإرهاب والعدوان والبطش على شعب أعزل.
هذه الزعزعة التي حدثت في صفوف الإسرائيليين هي التي جعلت النسب تتزايد وتنموفي الهروب من الخدمة في الجيش الإسرائيلي فبعد أن كان في السابق ينتحر من لا يجد له مكاناً في الجيش الآن يحمد الله على عدم خدمته فيه بل الهروب منه ومن مجازره.
إن بسالة هذا الفلسطيني الذي لم يتكئ إلى بيانات الشجب والإدانة والبيانات البلاغية، ولم يراهن على الموقف الأمريكي أو الأوروبي أو الصيني، لكنه اتكأ على عقيدته وعزيمته ونضاله التي كانت عوناً له في تصديه لهذا العدوان الغاشم وستكون الدعم الحقيقي إن شاء الله لتحريره من نير هذا الاحتلال وهي نقطة الضوء الوحيدة التي انبعثت الآن وتجلت لنا من بين ركام هذا الدمار والخراب والقتل والترويع.. نسجلها إلى الذين يبشروننا بحالة الهزيمة والانكسار!!.
|