* حين تُحلّق فوق مدينة الرياض القديمة على ارتفاع منخفض، سوف تجد نفسك وقد عدت (30) عاماً إلى الوراء، من أجل أن تشّم رائحة التراب الممزوج بالماء لبناء بيوتها التي حفلت بقصص أكثر واقعية وأكثر سطوعاً، وأكثر أسطورية، لكن الاحياء الخرسانية الجديدة شيء مختلف تماماً.
* منذ ولدت وحتى هذه اللحظة سكنت حوالي (12) بيتاً، أغلبها طينية رائعة،... يالهذا الاستقرار العظيم، ولا أدري حقيقة هل كان ذلك ميزة لحياتي، أم أنه سلبية فيها، ولكن الذي أعرفه تماماً أن هذا التنقل الحضري لم يكن بسبب مال فائض عن الحاجة أحببنا إنفاقه هكذا من أجل التجول والتعرف على حارات الرياض القديمة والجديدة، مثلما عرفت فيما بعد، أن هناك في مدينتنا آباء يهدون ابناءهم (فيلات) في الاحياء الجديدة التي ظهرت بعد (الطفرة الاقتصادية) كما لو أنهم يهدونهم قطعاً من الحلوى الملونة.
* كانت حارتنا حين كنّا في المرحلة الابتدائية مائلة، مثل حارة الروائي الألباني اسماعيل كاداريه في روايته (مدينة الحجر)، وكنت أشعر في بعض الأحيان أنها تتأرجح بنا، وفي أحيان أخرى أحلم نائماً أن البيوت سوف تنقلب على وجوهها فأصحو من نومي هلعاً.
حارة معبأة بالجبال الصغيرة والسفوح والهضاب والأدوية الجافة، تقع غرب مدينة الرياض، يحدها شمالاً شارع الخزان المشهور وغربا شارع العصارات الذي منه انطلقت موضات سنوات الطفرة الشبابية والى الشرق تبدأ الأرض في الاستواء شيئاً فشيئاً حتى تستقر وسط المدينة (الديرة) القديمة. وعندما تصعد أعلا جبل في هذه الحارة، قبل غروب الشمس بدقائق فإنك لن تستطيع أن ترى شيئا، لأن الشوارع في هذه الحارة، والتي تحولت إلى ملاعب لكرة القدم أثارت كل ترابها، وصار من المتعذر أن ترى مخلوقاً واضح المعالم. يخرج الرجال والنساء والأطفال والشباب من منازلهم عصراً، ثم يعودون وقت أذان المغرب في رحلات يومية مكوكية بسيطة ومعتادة وحين يحل الظلام يأتي الجميع في بيتوتهم بسمت وهدوء العصافير.
* أنا الآن أتذكر، ولا أريد أن يختلط التذكّر بالتخيل حتى لا تتحول الذاكرة الى نص قصص، وكنت قد أجبت أحد الزملاء حين سألني عن البطل في قصصي وقلت له ان المكان هو بطل الأبطال، ومؤكد ان المكان هو السبب في اتجاهي الى محاولة كتابة القصة أيضا، إنه الذاكرة، وهو ايضا رائحة قوية تأتي من الماضي، وتجعله أمامنا دائماً مثل كتاب مفتوح.
* وأنت تتابع ما يحدث الآن في أفغانستان سوف تكتشف ان بطل القصة هو المكان، لأنه لا أحد (مرئي) هناك، فقط طائرات بارتفاعات عالية ومخابىء، ليس هناك سوى المكان/ الأرض، والجوع الذي يمشي على قدمين فوق هذه الأرض إلى جوار الخوف والبؤس والتشرد.
* ما يحدث الآن فوق هذا الكوكب من صراعات يجعلنا نعود للماضي بكل همومه ومتعه وقبحه وجماله، ليس هرباً من الحاضر ولا حنيناً لهذا الماضي، لكن من أجل محاولة قراءة هذا الحاضر قراءة أخرى تضع في اعتبارها سلسلة من الحلقات أوصلتنا إلى هذا الواقع الجديد الذي نعيشه.
* هناك فرق كبير بين التذكر والتخيل.. ولكن حين تسيح الذاكرة على الخيال ويختلطان في لحظة ذهنية مفتوحة، يكون الإنسان ذاته قد فقد جزءاً كبيراً من قدرته على التركيز، وتحول إلى حالة قصصية جديرة بالتأمل، أو الكتابة.
* أما كتاب الكاتب الكبير الراحل الدكتور جمال حمدان (شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان، فإنه يؤكد ماذهبنا إليه في (اللحظات) السابق عن روح المكان.. رائحة المكان.. عبقرية المكان.
|