.. لم ينس.. ولم يقس لتلك التي أول من سمع صرخة قدومه هي هي التي تضرب في جدلية الذاكرة.. وتغوص في غياهب وسراديب النفس هي.. تفاحة القلب.. قرر ألا يبرح هذا.. اليوم دون أن يراها فغادر تاركاً.. صخب المدينة.. وتلك المباني الاسمنتية وكأنها علب الكبريت وتلك القلوب التي تلوثت وأصبحت قطعاً من جماد.. غادر المدينة.. ونساءها اللواتي يحملن وجوهاً.. تحمل دلالات لزمن جديد يفقد الجوهرة جوهرها والجميلة جمالها.. غادر من أجل التي هي كل شيء.. غادر.. بقلب تتزايد نبضاته مع كل مسافة يقطعها.. لم يكترث بالنظر إلى الطريق رغم وعورته التي لم يشعر بها. لأن الطرق التي تؤدي إلى من نحب يكون لها خصوصيتها وفرحها ومنزلتها العاجية.
لم يشعر إلا وبه على مشارف تلك المنازل البسيطة.. التي ينبعث من أمامها أدخنة متصاعدة.. تنبىء بالاستعداد التام.. وإعداد قهوة المساء لأولئك الرعاة البسطاء وهم عائدون خلف أغنامهم.. يسمع حداءهم.. بأشعار جميلة وصادقة.. لمح الشمس وهي تزف نحو الأصيل.
والليل أرخى سدوله.. وقف أمام من هي كل شيء.. وترجل عن سيارته.. وأخذ يتأملها بعيني المحب بكامل استقامته وحنينه لمحها وكأنها تريد أن تقول شيئاً.. هكذا كان يحدثه قلبه..
ولكنه استجمع قواه.. وقال.
لا أريد أن تتفوهي بكلمة واحدة.. أرجوك.. أعترف أنني أخطأت.. أعترف لم أوفِ.. بوعدي وعهدي..
أعرف كم انتظرتني.. وكم استمطرتِ أخباري.. إن من تشاركني فرحي.. وطفولتي وتتقاسم معي كل شيء.. لم ولن تنسى.
آه.. أذكر سهرك معي حتى خيوط الصباح..
وفرحك بحصولي على الثانوية.. مازلت أذكر عندما ودعتني.. إلى حيث المدينة والجامعة..
قرأت في عينيك نصائح ووصايا.. دافعها الخوف علىّ وحبك ليّ.
خمس سنوات وأنا.. استوقد بحبك وذكراك في قلبي وذكرياتي معك أمل الحب، أعترف بفشلي لأنني لم أنجز ما وعدتك بقيت خمس سنوات خلف أسوار الجامعة.. اعذريني..
لكنها الظروف التي تعرفينها.. وهي التي جعلت حتى أهلي يغادرون خلفي لأنهم لم يستطيعوا صبراً..
أعرف أنك أكثر وفاءً.. وسماحةً فهل تسامحينني.
هأنذا.. أعود.. بمآق حبلي بالدموع.. وخطوات خجلى، لا أريد.. أن تقولي أي شيء.. هدوءكِ صمتك نضارة محياك.. وصفاؤكِ.. وبساطتك.. دليل على أنك لم تعرفي للحقد.. طريقاً..
أرجوك..أخذ يصرخ.. يتحدث.. حتى سقط جاثياً.. أفاق من غيبوبته.. لم يجد صدى لبوحه.. حتى هي لفها الظلام الدامس بردائه..ياه.. إنه أمام صمت عميق.. عميق.. صمت من صمت أحبها.. ولكنه يكفي أنه قال.. لها.. ما كان يحب أن تسمعه..
قفل راجعاً بعدما أزاح ما يعتلج في صدره..
عاد يحمل في عينيه شوقاً لم ينطفىء بعد.. ودموعاً تستأذن بالسقوط.. عاد إلى من أضاعته.. مودعاً.. من كانت.. ومازالت كل شيء في حياته.
|