|
|
كثيراً ما نسمع من الآباء والأمهات صوراً غريبة ومرفوضة من العقوق أو قل الخروج عن طاعة الوالدين، وقد يكون هذا الأمر حقيقياً ويعاني منه الوالدان فعلاً، أو قد يكون قياسياً معيار الحكم عليه مقارنة سلوكهم بسلوك آبائهم عندما كانوا شباباً والقياس في هذه الحالة سوف يبرز حتماً فوارق ملموسة بين ابن اليوم وابن الأمس. وقد ساد اعتقاد ان القيم والمفاهيم والمبادئ تغيرت وتبدلت مع مرور الزمن وموجة التغيير والتغير الذي اجتاح المجتمعات البشرية، والحقيقة كما أراها ان هذا التغير وان حدث لم يكن المؤثر الوحيد على تبدل العلاقة وبعدها عن أدنى الحقوق والواجبات للوالدين. يحضرني في هذا المقام بعض سلوكيات السلف تجاه والديهم منها ما ذكر المأمون انه لم ير احداً أبرَّ من الفضل بن يحيى بأبيه، بلغ من بره له انه كان لا يتوضأ إلا بماء سخن فمنعهم السجان ذات يوم من الوقود في ليلة باردة فلما اخذ يحيى مضجعه قام ابنه الفضل الى قمقم نحاس «إناء من نحاس» فملأه ماء وأدناه من المصباح، فلم يزل قائماً وهو في يده الى الصباح، حتى استيقظ يحيى من منامه. وموقف اخر قيل طلب بعضهم من ولده ان يسقيه ماء، فلما أتاه بالشربة وجده قد نام، فمازال الولد واقفا والشربة في يده الى الصبح حتى استيقظ ابوه من منامه. وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ان لي أماً بلغ منها الكبر انها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطية، فهل أديت حقها، قال لا لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه وتتمنى فراقها، وقيل لعلي بن الحسين رضي الله عنه إنك أبرَّ الناس، ولا تأكل مع أمك في صحيفة، فقال اخاف ان تسبق يدي يدها الى ما تسبق عيناها اليه فأكون قد عققتها. صور من حياة السلف وسلوكياتهم تعكس التزامهم بالتوجيه الإلهي حيث قال الله سبحانه وتعالى: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا اياه وبالوالدين احسانا اما يبلغن عندك الكبر احدهما او كلاهما فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما» الاسراء اية 23. والتزموا بتوجيه وهدي نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: رغم أنف، رغم أنف، ثم رغم أنف، من أدرك أبويه عند الكبر، احدهما او كليهما، فلم يدخل الجنة.ان مثل هذه القيم والمبادئ الإسلامية في حق الوالدين وان كنا نطمع ان نراها في أبنائنا إلا اننا لا نتوقع حدوثها ليس لسبب بعد الأبناء والآباء عن هذا التوجيه فحسب بل في نظرتنا الى مقومات ظهور هذه العلاقة كما كانت في السابق، في السابق كان ارتباط الابن بأبيه ارتباطاً اجتماعياً ونفسياً ووظيفياً في نفس الوقت، ومنطلقات جميع هذه المقومات الارتباط الحقيقي بالتوجيه الإسلامي في معاملة الوالدين بغية تحقيق الأجر والثواب الذي ولد الإحساس الغريزي بمسؤولية الابن المطلقة تجاه والديه. وعمومية هذا الإحساس في المجتمع الإسلامي آنذاك جعل الأبناء تحت طائلة المقت الاجتماعي فيما لو قصر أحدهم في حق والديه. اليوم اختفى او كاد الارتباط الوظيفي بين الابن وأبيه فلم يعد الأب يعتمد اعتماداً كلياً على ابنه، إما لان عمله الوظيفي لا يحتاج الى ذلك، او ان الابن لم يعد يرغب في عمل والده وخط لنفسه طريقا غير طريق والده. اما الارتباط الاجتماعي فقد اتسعت في الوقت الحاضر رقعة الرفاهية الاجتماعية، وتغير مفهومها بفضل التعليم والإعلام والمواصلات وشتى مقومات الرفاهية الاجتماعية، وهنا فقدت القدوة الحسنة وأصبحت المحاكاة للأسوأ. |
[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة] |