تلقيت رسالة بريدية من شاب في السابعة والعشرين من عمره كتب لي فيها يقول:
«ما أقساها من لحظات عندما تشعر بالظلم والضعف والهوان، وما أقساها من لحظات عندما لا تجد حضناً ترتمي فيه حين تحتاج إلى لمسة حنان، وها أنا أعاني كلتا الحالتين فقد نشأت بين أسرة مفككة وغير متماسكة لا أحد يسأل ولا أحد يهتم وقد أثر هذا في حياتي كثيراً، حيث توفيت والدتي وأنا في الرابعة من عمري إثر صدمة عنيفة من قبل والدي سامحه الله سببت لها متاعب نفسية وأمراضاً عضوية إلى أن انتقلت إلى جوار ربها، عندها وجدت نفسي وحيدا بين أب مهمل وزوجة أب قاسية القلب.. قلبها كالحجارة أو أشد قسوة، لقد أذاقتني أنواع العذاب، عذاباً بدنياً وعذاباً نفسياً، حقيقة فراغ كبير تركته أمي بداخلي بعد رحيلها، فلم أشعر بمن يهتم بي إطلاقاً، ولم أجد الرعاية الشاملة والمميزة منذ الصغر.. بل وجدت الإهمال والقسوة والحرمان، حتى أقاربي سامحهم الله يتهربون من المسؤولية ويماطلون بحجة أنهم مشغولون بأنفسهم، لقد تعرضت لمأساة دامية وصدمات عنيفة، التهمت أجمل مراحل عمري وحطمت كل آمالي وأحلامي التي رسمتها، وكان لها تأثير كبير على تغيير مجرى حياتي، بحثت كثيراً عمن يشاطرني همومي ويمد لي يد العون في مثل هذه الظروف القاسية، ولكن للأسف اكتشفت بأني أعيش وسط مجتمع لا يرحم الضعفاء ولا يساعد المحتاجين، فقد تخلى الأحباب وابتعد عني الأصحاب وتنكر لي الأهل والأصدقاء، وضاعت حياتي دون زوجة أو ذرية تحمل اسمي بعد مماتي، لقد ذقت مرارة الفشل والحرمان، وتعثرت كثيرا في حياتي، ومع ذلك أتظاهر بالسعادة، وأنا في الواقع أبعد ما أكون عنها فابتسامتي وضحكتي هي في الحقيقة ليست سوى ستار أخفي خلفه روحا تتألم وأحزانا دفينة، والله.. ثم والله إن الموت بالنسبة لي أقل عذاباً من حياتي، فأنا لا أريد أن أعيش وحيدا في منزل والدتي رحمها الله بعدما خرج أبي وزوجته وأولاده إلى منزل جديد، وتركوني وحيدا حيث الوحدة تكاد تقتلني فلا صاحب ولا ونيس سوى الحظ التعيس، ها أنا الآن بلا وظيفة بلا عمل منذ أن توقفت عن الدراسة قبل فترة طويلة بسبب ظروفي الأسرية، وبالكاد أجد قوت يومي، إني أشعر بشيء من الإهمال وأعيش في حالة نفسية سيئة للغاية، لذا أحبتي في الله: ساعدوني، التفوا حولي، فإن لم أجد من يتعامل معي بطريقة سوية ويقدم لي المساعدة فقد ألجأ إلى الانتحار رغم أني أعلم تماما عواقب هذه الأمور».. انتهت الرسالة.
ولأن العنف العائلي طرح إعلامياً بصيغة سؤال فحواه «هل هو حقيقة في مجتمعنا» أتت هذه الرسالة لتؤكد حقيقة تواجده بما تشتمله الرسالة من العوامل التي أسهمت في حدوثه وارتفاع معدلاته.. وأشكال العنف الممارس في حق من يقع عليهم.. مع إيضاح من هم ضحايا العنف العائلي..!
الرسالة هذه ليست إلا وجها من وجوه العنف العائلي في مجتمعنا.. وما يترتب عليه من أثر سلبي على من وقع عليه العنف بالدرجة الأولى.. وهو هذا الشاب الذي هدد بالانتحار وارتكاب جريمة في حق نفسه، إن لم يلتفت إلى وضعه المأساوي.. وما آل إليه من وحدة.. وبطالة.. وضياع.. قضيته.. قضية من قضايا عدة أفرزها العنف العائلي بما يترتب عليه من أذى نفسي أو جسمي موجه لأي فرد من أفراد الأسرة.. في حين نعلم أن من أهم ضروريات الحياة الأسرية أن يكون الأشخاص بها مستقرين نفسياً، مطمئنين جسدياً.. بيد أن الدكتور عبدالله الفوزان أستاذ علم الاجتماع المشارك بجامعة الملك سعود، والإعلامي المعروف بين لنا أن من أهم العوامل التي أسهمت في ارتفاع معدلات الجريمة والعنف العائلي في المجتمعات العربية انحسار الوازع الديني نتيجة البعد عن مصادر التشريع، وحلول مؤثرات إعلامية وتربوية أفسدت علاقة الإنسان بخالقه، وسيطرة الحياة المادية على إنسان هذا العصر مما جعل علاقة المصالح أولى من روابط الدم والقربى والزواج.. بجانب أمور عدة.. ونقاط أخرى سنتطرق إليها في اللقاء القادم.. بإذن الله.
|