الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، يحضر الجلسة المسائية للمؤتمر بعد أن طرح مبادرته في الجلسة الأولى والظروف تختلف بين الجلستين الأولى بجانبه الأمير نواف والثانية الأمير نواف في المستشفى بعد عارض يزول بحول الله، وبكل شعور بالمسؤولية وحضور مشرف لقائد يتناسى الظرف الطارئ ويكون جسده وعقله متابعاً لتفاصيل المؤتمر الأهم وقلبه وشعوره بجانب أخيه الذي دخل المستشفى قبل ساعات.. مسجلاً أروع المواقف التي تجري في العروق العربية وأشمخ الانتصارات في ظرف لا يسمح لنا أن نتخلى عن أمتنا لأن العالم بأسره ينتظر الخطاب السعودي ليحل كثيراً من القضايا المعقلة.. في ذلك الموقف لا يستطيع كائن من كان أن يمسك أعصابه ويتابع التفاصيل إلا الأمير الشهم«عبدالله بن عبدالعزيز».. ذلك العربي الطموح الذي يفكر بالوفاء والعفو ومصلحة الأمة التي تقتضي أن نفكر بطريقة جديدة تتلاءم مع الأحداث والمواقف العالمية الموجهة ضدنا..
أتابعه سيدي، وأرى تفاصيل الحزن على ملامح وجهه، وعلى الرغم من حزنه إلا أنه أبيض ناصع في زمن السواد، يختلف عن أولئك الذين يعمدون إلى خلق ضوضاء حول أنفسهم دون فعل، مثل الرحى التي تخرج أصواتاً ولا تعطي طحيناً، ويبالغ بعضهم في حديثه عن العلم والمعرفة متجاهلاً قول هكسلي إن الهدف الأخير للحياة ليس المعرفة وإنما الفعل، وقول العرب: يمكن للببغاء أن يكون فصيحاً ولكن ليس من الممكن له أن يكون بليغاً، ويتفنن للأسف بعضهم بصناعة الخطب مع أن الفن بصناعة الحياة والكرامة وليس بصناعة الخطب، ويصف الحكمة ولا يفعلها كمن لا يحسن ارتداء الثوب الذي يمسكه ويبقى عارياً وإن كان لديه ما يستره.
إن تحرر العالم العربي ليلة مؤتمر بيروت من خطاب العسكرتاريا الفاشل أشبه بيوم 14 تموز 1789م الذي هدم فيه سجن الباستيل في بداية الثورة الفرنسية، نعم لقد تجاوزنا تلك الحقب التي انتشر فيها (الحامول) كما ينتشر في حقول الخضار فلا هو مثمر ولا يدع الخضار تعطي الثمار، نعم تجاوزنا تلك الحقب الباردة التي تحلق العرب فيها حول حطب الطرفاء الذي يتفرقع ويعطي لهباً غير أنه لا يعطي جمراً، فهو مؤذٍ في الحالتين:يصم الآذان ولا يدفىء الأبدان، نعم لقد تجاوزنا زمان الصيدح الذي يوقظك في الصباح لا لشيء إلا من أجل أن تسمع صوته المزعج.
إنه باختصار يعطي الجميع دروساً سعودية خضراء في المسؤولية والقوة والزعامة.
هيهات هيهات.. با جولدا مائير، لا لن يموت الكبار ولن ينسى الصغار، وما كان قولك عندما سئلت عن مستقبل القضية الفلسطينية ب(غداً يموت الكبار وينسى الصغار) إلا خيالاً لا يعرف جبابرة الأرض وسادة التاريخ، فلقد خسرت الرهان، لأن العرب يتوارثون الثأر والتفاصيل، ولم يزدهم نصف القرن إلا إصراراً وبسالة.
ربما لا أبالغ إذا قلت إنَّ خطاب الأمير عبدالله السياسي هو الأخطر منذ خمسين سنة في الصراع العربي الإسرائيلي، لأنه جاء في وقت يختلف عن كل ما مضى، الانتفاضة في أوج توهجها، والعالم ينتظر بريق أمل في هذا الكم الهائل من السواد الذي فرضه شارون على الشعب الفلسطيني، ولم يترك وسيلة من وسائل القمع والتهجير إلا استخدمها في تحد صريح للقرارات الدولية.. وربما لا أبالغ أيضاً إذا قلت إنه أكثر المؤتمرات العربية منذ عقود إيجابية، لأنه عرَّى إسرائيل ببيانه الحكيم ومبادرة السلام والمصالحة العربية أمام الرأي العالمي وأعطى الجميع فرصة أخيرة للسلام الذي يبحث عنه العالم بأسره.
على النقيض من حشد الخائنين على مر تاريخ الأمة القديم والحديث يقف الشموخ والوفاء غطريفاً لممارسة المهمة الكبرى بعد أن ركب سفينة المسؤولية وهي تمخر عباباً كالظلل في المحيط العربي المتلاطم لتصل إلى مرفأ الولاء والإخلاص والسلام في أقصى موقع تملكه هذه الأمة.. لتكشف الزيف عن خطابنا القومي الذي خدرنا، ذلك الخطاب المفروش بكلمات الطامة والمغلف بظلمات الخوف.. فسدت ألسنتهم وزاغت أعينهم وارتجت أرجلهم وخافت أفئدتهم وأبت إلا أن تسكب في مستنقع الخيانة العظمى، وأبى رجالها إلا أن يعيشوا طفيليين ليموتوا في النهاية طحالب آسنة..
على النقيض من حشد العابثين بتاريخ أمتنا يقف هذا الشهم وحيداً في وجه خيانة الطبع الإسرائيلية التي لا تنفع معها نصيحة ولا سلام ولا ميثاق رغم حلوكة الظلام وغشاوة الهزيمة، لأن النور في قلبه والعزيمة في جوانحه والنصر في تاريخه المشرف أشياء ممزوجة بدمه العربي الأصيل ورثها كابراً عن كابر، كيف لا؟ وهو سليل إرث ملكي إسلامي منذ قرون.
ادخل أيها الأمير.. ادخل في غربة الوطن العربي التي طالت حتى ملتها الغربة!.. فلقد فرشت لك أرجاؤه الحدق.. ووطَّأت لقدمك المهج.. ادخل أيها الشجاع أنساً لوحشتنا ونصراً لقضيتنا وخطاباً قومياً يختلف.. ادخل إنا ننتظرك شوقاً ولهفة بعد أن أوحشتنا الطريق، وخذلنا الرفيق والصديق.. فهذا زمن يتنكر للعظماء ولست أنت الملوم المستوحش، فهم المنبوذون وهم المهزمون الخائنون.
حضرت فغابوا فما خانك الجيل المعجب وكأنه المتنبي في حضرة سيف الدولة الحمداني آهٍ قد يؤتمن الخائن يا أميناً أين منك الأمناء، فليهنأ بك السعوديون وليهنى بك العرب الشرفاء.
أدخل إلى عيني من أوسع أطرافها، إن الزمن زمن شهادة وزمن موقف، فهذا التاريخ قد مسك قلمين أحدهما من نور والآخر من ظلام ليسجل في صفحة العرب ما يستحقون وكأني أسمعه الآن يصرخ في أذن الخلود.. حقاً تستحق ذلك الشرف يا أبا متعب لأن الوطن العربي مكلوم بأسره الآن، وقد ملّ كرنفالات مزيفة وخطابات معدة. هي في النهاية ليست من صالح العرب الذين، يختلفون في زمن الحشود والتكتلات من خلال خلق المواقف المزعجة، والشعوب يا سيدي قد ملّت رفع أعناقها تجاه القمم العربية التي لم تتفق ولو على مستوى كلمة وشعور.. نعم مللنا الوقوف عقوداً حداداً على شهداء الأمة مختلفين عن العالم الذي يقف دقيقة واحدة تجاه قتلى كل كارثة لأن كوارثنا وشهداءنا كثيرون يا سيدي!!
سلامتك يا نواف.. وسلامة الشرفاء.. وسلامة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، التي أشغلتها بهرجة المؤتمرات على مر خمسين سنة من استقبال ووداع وزيارات وقضايا ونسيت الحدث الأهم ونسيت أن القدس عربية إسلامية تستنهض الجيوش التي تدربت طيلة عقود وملأت مخازنها بالأسلحة التي فسدت من طول اقامتها..
سلامتك يا نواف.. في زمن بلاغة التضليل والكذب والشعوذة والارتزاق وهذه الأمة المكلومة ابتداء من البيانات الصادرة عن الثورات العربية التي يسيل لها اللعاب لتحرير فلسطين ويخفف بها وجع البطن وصداع الرأس.. لتصحو الشعوب العربية على زيف طريقة في الحكم غير متوافرة لأي شعب في هذا العالم المتمدن.. إن العرب مثل فلسطين ملّوا العيش كالبعوض في مستنقعات الخذلان والجاسوسية والجوع والقهر والاستبداد والدكتاتورية..
سلامتك يا نواف.. وليست هناك لحظة قادمة أخطر من هذه اللحظة التي حشدت في ذاكرتك يا سيدي كل مواقف الهزيمة فانفجرت العروق نزيفاً يحتج على الممارسات والنشيد الحزين والمصير المؤلم لهذه الأمة.. حضرت فغابوا ونسوا أن الأمة قد جربتهم نظاماً نظاماً ومخفراً مخفراً ولم تعد تطربها احتفالات العسكرتاريا وأعياد الجيوش وقرع الطبول ومحاولات التسلح.
قليلاً من الحياء.. قليلاً من الرقص.. قليلاً من الغياب، قليلاً من القتل والتدمير والقمع.. نريد سلاماً وحياة كريمة.. نريد صياغة جديدة.
وقف سيدي الأمير عبدالله ليعلمهم أننا دعاة سلام وأننا نؤمن بأن هذا الشعب الفلسطيني شعب عظيم يستحق أن يعيش ولا نسمح لكائن من كان أن يطمسه من على هوية الخارطة العالمية..
وللأسف كل مرة ينتهي المشهد بوجبة سامة تقدمها المؤتمرات للشعوب المناضلة إلا هذه المرة ويثبت الأمير أن الامبراطورية الباترياركية التي تتألف منها مجموعة النظام العربي لن تتفكك وستفرض احترام العالم لنا، ثورة على بريق البروتوكولات، وزيف العبارات، والبيانات الختامية الخاملة، لأنها لم تتفاعل كعناصر نشطة مع التاريخ الذي ملّ أيضاً ربطات العنق زاهية الألوان والحقائب الدبلوماسية والمشاكل والحدود وسوء النية.
كنت أشعر بالحزن وهم مختلفون على مبادرة قديمة طرحت في مؤتمر عمان لم يتفاعل معها العالم كما تفاعل مع مبادرة سيدي الأمير عبدالله، ومختلفون حول وحول.. والفلسطينيون مسحوقون ومسجونون مع رئيسهم في رام الله وحول.. ما لهم لا يدركون أهمية مستقبل الأمة التي فقدت أعز ما تملك: الأبناء والكرامة والأثر الفاعل، والتنمية والمشاركة في صياغة هذا العالم.
سلامتك يا نواف.. وسلامة فكر أمة محمد من الضحالة وقصر النظر ورداءة الفهم، والتي انعكس، فسادها على حال الأمة وخطابها القومي المتجرد من نصوص القرآن والسنة وكنوز التراث الإسلامي، كل منا يفكر في نفي الآخر ومصادرته كل منا يريد أن يستأثر بالحقيقة ويحجبها عن غيره، لا يبحثون عن نقاط الالتقاء ولا يوظفون الجهود من أجل اعادة صياغة الأمة صياغة تتفق مع منزلتها وحضارتها وعالميتها، صياغة لا تؤمن بالانقسام والتعددية تجاه الخطاب العام والمشروع الإسلامي الحلم، صياغة لا تؤمن بالسحق والتشويه والمؤامرة، صياغة نستطيع أن تعبر بالمسلمين هذه الأزمات والخلافات لتحقيق مشروعهم العظيم.. صياغة تؤمن بالتجديد ضرورة عصرية حتى لا يدير لنا العالم ظهره، وتركز على مقومات المجتمع الإسلامي الصحيحة لتثبت أمام رياح العولمة وضياع الهوية، صياغة تعيد ما هدته حركات التنوير الكاذبة والاستشراق ومرتزقة الثورات العربية..
لا أدري ما السر في جعلنا أمة في هذه الصورة؟ أمة جامدة حتى أمام ما يثير غريزة المقاومة عند الحيوان على الرغم من أن التراث العسكري الإسلامي مليء بما تحول إلى مثال، وعلى نقيضه تماماً ما تحقق في العصر الحديث، وذلك بسبب تشكل كثير من الدول العربية والأنظمة العسكرية، بفعل عوامل خارجية وأخرى ذاتية مريضة، فعلها الاستعمار الذي خطط لنا كي نكون بهذه الطريقة وهذا الأسلوب الذي أحرجنا أمام العالم، إن الحقب الاستعمارية لم تكن مجرد طلاء تمت ازالته بالاستقلال، وما افرازات الهزيمة التي نعاني منها إلا بسبب امتداداته وظلاله التي خلّفها بعد أن نهب مصيرنا وثقافتنا ومدخراتنا حتى أنف أبي الهول.. الذي نرجو أن يعود قريباً لنحتفل به كالفاتحين..
إن العسكرتاريا العربية مسؤولة أمام شعوبها عن هذا السبات وهذه الإفرازات والتجليات وكل ما حجب الحقيقة وجعلها مهزومة أمام نتائج الحروب التي خاضتها ولا يمكن أن ينسى العرب أطول حروبها وأشدها كارثة، وأعظمها هزيمة تلك التي لم تدم إلا ستة أيام، وضاع فيها ما لا يعود ولا أبالغ إذا قلت إن اليوم السابع من الحزيران المؤلم عام 67م أطول يوم في تاريخنا؟ لأن شمسه التي أشرقت لم تغب حتى هذا اليوم..
والله من وراء القصد..
'الإمارات العربية المتحدة رأس الخيمة |