إشكالية الكتاب الأدبي ستظل قائمة ما أقام هذا الاحباط العام الذي يتلبسنا جميعاً، ويوثقنا إلى جدار الصمت مكرهين على فعل التحديق في الفضاء.. مثل «البهاليل» على حد قول «نزار قباني»..
تمر قطارات الثقافة من فوقنا، والتحولات الحضارية من تحتنا، وتهتز الأرض ولا نأبه بشيء.. بل نحن لا زلنا نبحث عن ذواتنا بما قلناه ولم نفعله، ونتجمل أمام الآخرين بما كنا ننوي قوله وفعله.. وكأن كل ما فعله الآخرون من نجاحات هو في الأساس من وحي أفكارنا وأقوالنا.
أعيد هذه الاشكاليات التي اعترضت طريق الكتاب الأدبي الى هذه الاضمامة الزاوية من نوايا الموهمين بأن الكتاب لن يتقدم خطوة واحدة طالما أنهم «منسحبون» عن الساحة الثقافية.. خذوا حذركم من هذه الكلمة «منسحبون».. نعم.. انها أم المصائب فهؤلاء المنسحبون يتحولون وبمجرد اشارة واحدة الى ترس في عجلة النشر.. بل ان إنكافهم هذا يأتي مصحوباً بادعاء مضلل بأنهم جاؤا لانقاذ ما يمكن إنقاذه.
«المنسحبون» وضعوا مرة في قائمة بصورهم الملونة وهم يؤكدون على لسان تلميذ يتعلم تكتيك الانسحاب ان الساحة لدينا لم يعد بها ما يبهج بل انه ومن يراهم اساتذة الانسحاب يفرون الى أماكن أخرى لعلهم يجدون ما يقتاتوة وهم على حالة الانسحاب هذه.
يذكرني هذا الانسحاب المزعوم للبعض عن مشهدنا الثقافي «محلياً» بما تفعله بعض الفنانات لحظة ان تهم بترك الساحة الفنية لتأتي ترادفات لفظية «منسحبات، محجبات».
هل الثقافة عيب عندما يتبجح البعض بأنه انسحب عنها رغم ان انسحابه مزعوم، وربما تكتيكي للاجهاز على منصب بسيط أو عضوية ثانوية؟!.
طريق الكتاب الأدبي محفوف بالمخاطر طالما ان هذه المثبطات والعثرات باقية فيه.. هو الطريق الذي لا يمكن ان تنفع فيه المجاملات والادعاءات رغم المحاولات الدائمة والمتكررة اختراق هذا المشروع الإنساني العظيم.. يظل الكتاب في نأيه عن التحول والتغيير بل إنه مرتبط بالعقل إذ لا يمكن لأحد ان يقول عنه إنه كائن متحول.
ومع تزايد اشكاليات وصول الكتاب الى القارئ ندرك ان هذه المشاكل مرشحة ان تكون ذات بعد اكبر واخطر ربما تتجسد في سيطرة العقل الجشع، والرؤية الانتهازية، والثقافة المادية، لتشكل هذه الأمور الثلاثة فرصة قوية لعبث بعض العقول بالإنجازات والمشاريع الثقافية لتحويلها الى مجرد تجارة.. أو «بزنس» يحقق من ورائها الكسب ولا غيره.
فالمعضلة الآن أصبحت أكثر وضوحاً بل إنها تتمحور حول رؤى بعض الناشرين في العالم العربي والذين يدركون أن هناك أكباش فداء للثقافة والابداع ومن الواجب استدراجها الى المذبح.
نعم هناك اغواء لجيل كامل من الكتّاب في العالم العربي هم ربما أقرب ما يكونون الى جيل «المنسحبين».. هؤلاء الذين تأثروا بطروحات المتبرمين والساخطين واليائسين ومن على شاكلتهم.. فالغواية تأخذ شكل استدراجهم لدفع «الدولارات» مقابل إصدار مجموعات شعرية وقصصية وروائية لكن المحزن في الأمر أن بعض هؤلاء الذين يجربون كل عام أقول البعض يتمادون في تزييف الواقع.. بل إنهم يشيرون الى ان أعمالهم تلقفتها أيدي الناشرين.. بل إن هناك من دفع له كذا وكذا من المال مقابل ظفره بهذا العمل.. وهذا إدعاء مضلل، فالناشر يغوي وينصب حباله.. وإخواننا يتحدثون عن أعمالهم بطريقة مخجلة تنم عن «آناوية» مقيتة.
رحم الله من عرف قدر نفسه ودفع الدولار وراء الريال من أجل ان يصل عمله الى أكبر قدر من القراء في عالمنا العربي، وزاده الله رحمة إن صمت وترك للقارئ فرصة الفحص والفرز لما هو حسن ونافع.. لكنك ان تدعي، وتشنف آذان من حولك بقدراتك الخارقة على الكتابة وتهافت الناشرين عليك فهذا عين الخطأ، والإدعاء.
الأمر لا يعدو كونه استدراجاً لهؤلاء الذين وقعوا أكباش فداء لحركة النشر ولازالوا يكابرون ويجاهرون بأنهم سجلوا انتصارات عظيمة وهم لم يحصدوا إلا مزيداً من الأوهام بأنهم أصبحوا كتّاباً كباراً مثل فلان وفلان!!.
هناك من جرب واكتشف اللعبة، وعرف ان ما يفعله بعض الناشرين هو من قبيل لمّ القرش على القرش، وظل يوائم بين ما يقدمه وما ينتظره من القارئ بطريقة هادئة وواضحة تبين وقائع الأمور التي يعاني منها الكتاب العربي ولازال يتلمس الخلاص من بعض تبعاتها المؤذية.
|