|
| ||
ولو أننا تعمدنا تقصي مفهوم المصطلح ومشموله ومشروعيته وعلاقاته بأنواع النقد: حاجة أو من باب الفضول فإننا قد لا نجد جوابا شافيا كافيا وبخاصة حين لايكون بين أيدينا الا ذلك القول المقتضب في الفصل الثاني من كتاب المشروع أو الحديث عن (لعب التسلية) وظاهرة (الاستراحات) التي يقضي فيها الفارغون فائض وقتهم في أطراف المدن أو الحديث الافتراضي عن المرأة واللغة. ومشروع يحكي صاحبه مراحل تشكله من المحيط إلى الخليج لا يكون بهذا الاقتضاب ولا بتلك النماذج التطبيقية. أما عن المشروعية فلا خلاف حولها متى استقام المشتغلون على الطريقة وتفادوا التخندق مع الضِّد. والقول بالنقد الثقافي أخذ بالعموم دون الخصوص، وهو قائم في كل التناولات إذ الثقافة أعم مما سواها، وعلى ضوء ذلك فإن تناولات أي ناقد ثقافي يمكن توجيهها إلى معارفها المتعارف عليها من قبل. فالحديث عن المهمشات ك (لعبة البلوت) و(الاستراحات) أقرب إلى (علم الاجتماع) منه إلى الثقافة والاشتغال في اللغة من حيث فحولتها وأنوثتها اقرب إلى علم الصرف أو إلى فقه اللغة منه إلى الثقافة والاشتغال في الأخلاقيات من خلال الحديث عن (الشحاذة) و (المدح) أقرب إلى علم الأخلاق ومقاربة الأخلاقيات المهمشة من قبل عند البنيويين حفز البعض على التوقع بأن مثل هذا الفعل محسوب (للنقد الإسلامي) وماهو منه لا في قبيل ولا دبير، فالمقاصد والأهداف تفرق بين مشتغلين في قضية واحدة ومن ثم فإن تنبؤات البعض، والقول بالمؤاخاة بين (النقد الإسلامي) و (النقد الثقافي) غير مسدد إذ ان ضرب الانساق المختلقة أو المتصورة في الوهم لا تحيل إلى الاصلاح، ولا يكون المشتغل بها أو من خلالها وفق هذه الغايات مصلحاً ولا متناجياً بالمعروف واقتياد الثقافة العربية من فضاءاتها الواسعة ومرجعياتها المتعددة وتحولاتها المعرفية وتقلباتها الدلالية وتشعباتها المذهبية وتفاعلاتها الواعية واستجاباتها المختلفة المستويات، وحشرها ظلماً وعدواناً في نفق ضيق ومصدر واحد، بل في سمة سيئة واحدة من سمات المصدر الواحد، قول لا يتفوه به إلا جاهل يجب تعليمه، أو ماكر تتحتم مواجهته، والقول بالجهل لايعني أمية الشخص، وإنما هو جهل للقضية، وهو قائم عند العلماء والعامة. والثقافة المحال إليها تتسع لأكثر مما عول عليه صاحب المشروع، وقد أشار تمام حسان إلى أنها تشتمل على مفهومين:
ولعل الناقد (جابر عصفور) شاهد من الأهل، حين يقول عن (الإيقاع اللاهث من التغير) وهو يتحدث عن تحولات النقد: (هذه المتغيرات الحاسمة تفرض نفسها علينا لأننا نعيش في هذا الكون معيشة المستهلك الذي يستجيب إلى متغيرات لا يسهم في صنعها ويستقبل تحولاتها ليس له دور حاسم في توجيهها) (آفاق العصر ص104) ذلك قوله عمن أخذ مباشرة من الغرب، فما قولنا عمن أخذ من الآخذين:
وأصحاب المشاريع لا يكونون مستهلكين، والمستهلكون لا يسهمون في صنع الأشياء، والقول في (الحداثة) و(البنيوية) و(التحويلية) و(النقد الثقافي) استهلاك، والقائل بشيء من ذلك مستهلك، وادعاؤه بأنه صاحب مشروع ادعاء عريض، والقبول به مؤشر بدائية، وتلك (الزئبقية) كما يسميها الدكتور (عبدالرحمن السماعيل) بحق صاحب المشروع، تحولت عند البعض إلى ميزة لم تتحقق إلا لذوي القدرات الخارقة على التحول الدائم، كما هو عند (رولان بارت) (كتاب الرياض) (9798) والمحمود من الزئبقية لا يكون على إطلاقه، فصاحبه في اضطرابه كالمرآة في كف الأشل، لايحقق متابعها إلا دواراً في الرأس وغثياناً في المعدة، ومايقوله (جابر عصفور) ليس وقفاً على النقاد، ومن ثم لم يكن الأدباء وحدهم من يمارس الأخذ عن يد وصغار. فطائفة من علماء النفس والاجتماع والتربية واللغة والاقتصاد والسياسة، يأخذون بغير حساب، محققين التبعية المخلة بالوجود الكريم. وما أحد من أولئك حاول (الأسلمة) أو (العوربة) وصُنع المصطلح، واتخاذ المنهج والآلة الملائمين لحضارته المغايرة وذلك أضعف الايمان. على ان من حاول مثل ذلك وصف بالرجعية والسكونية والماضوية، وهي كلمات مجّتها الأسماع، وملّتها المشاهد واهترأت من كثرة التداول، ولما تزل ملاذ الهاربين من ملاحقة الناصحين وصراع التجديد والتقليد مضلة أوهام ومزلة أقدام ولما يفرق البعض بين الراحل بالتراث والراحل إليه والمستبطن له والمنغمس فيه ولا بين المستوعب لحضارة الآخر والمقتطع منها الجالب دون استيعاب أو هضم. ومُدَّعو التجديد لايقدرون علي التمثيل الغذائي الذي تتحقق معه مقولة: (الأسد مجموعة خراف مهضومة) ولايرضون بالمؤاخاة بين ماهو قائم وماهو قادم، ولا يقنعون بالترادف والتعايش وإنما يصرون على البدائل وفي ذلك انسحاب مرحلي لحضارة سطعت شمسها على الغرب، إنهم بهذا النفي وذلك الا ستخفاف يقترفون خطايا جلب النكرات وطرد المعارف ولهذا اتخذ البعض منهم سبيل (النقد الجنائزي) ففي كل يوم نسمع بموت ظاهرة وحياة أخرى ولن نحصي كم أميت في مشاهدنا الفكرية والأدبية والعلمية من نظريات ومعارف لتخلية الجو لمجلوب غريب يطير به البسطاء، ويتصورونه فتحاً مبيناً، ثم لايكتفون بالذهول، بل ينكصون على أعقابهم للنيل من كفاءاتهم الوطنية وتراثهم العميق، وكأني بالتاريخ يسائل أولئك: أتؤذون رجلا يرفض موت النقد وهلاك النحو، ويقبل بالجديد المفيد والمبتكر الجديد، لماذا التشنج والانفعال والإيغال في تسفيه الأحلام؟ وإشكالية المشاكل اختلاف المفاهيم حول القضايا المصيرية، وحول أسلوب التعامل معها، والتقارب العالمي والخلطة المستحكمة فرضت التخطي من الصدام إلى الوئام، ومن التدابر إلى الحوار، غير ان مفهوم الحوار تحول إلى إشكالية أخرى. فالوضعيون، والماديون، واللغويون، والتربويون، والنفسيون، والاجتماعيون، والاقتصاديون، والأدباء، والنقاد، والمؤرخون اختلفوا فيما بينهم حول طريقة (الحوار الحضاري)، وحول مشروعية المصير إلى الآخر أو أسلمة ماعنده، ومن ثم اقتتلوا حول افتراض القديم والجديد، والمقلد والمجدد، والرجعي والتقدمي، ولم يشتغلوا في التمثل السليم والاستيعاب المقتدر. والقول عن القديم بهذا النفس العدواني إدانة له، واستنهاض لنفيه. على ان البعض سعى لقطع دابر القديم بإشاعة الموت لظواهر تراثية قائمة ما أقام (عسيب) واحتدام مشاعرنا ليس خوفاً علي (النقد الأدبي) أو (النحو العربي) حين أميتا بجرة قلم، ليخلو الجو لناقد فرنسي أوعالم لغة أمريكي، وإنما هو خوف على أنفسنا وسمعتنا إذ كيف تنطلق هذه الدعاوى من أرض الجزيرة التي حوت أعظماً يعز عليها ان تلين قناة اللغة والأدب. ومُدَّعو التجديد تفانوا في الأخذ بعصم المذاهب الغربية، ولم تكن لهم مبادرات تتحسس حاجة الأمة، وتستجيب لمطالبها، والأقل من عرف كيف يحاور، فمنهم من أضاف ما أخذ إلى ما عنده محاولاً إذابة الطريف بالتليد محتفظا بملامح ذاته، والأكثرون الأخسرون استخفوا بما عند قومهم وما أحد منهم أحسن صنع شيء ثابت مفيد، والقليل القليل من طوى كشحه، وانكمش على نفسه، ولما يعرف انه الأدرى بأمور دنياه ومن ثم فوّت على نفسه فرص الحياة الكريمة، وموقفنا من الرافضين لكل جديد كموقفنا من المنسلخين من كل قديم المتهالكين على كل وافد، ولو أن المتهالكين وهم النقيض أخذوا ماهم بحاجة إليه، وأضافوه إلى ماعندهم، واتخذوا مذاهبهم وآلياتهم من حضارتهم، لكانوا أعزة عند قومهم، وعند خصومهم، وكان فعلهم مشروعاً، فالاقتراض دأب الحضارات، غير أن أولئك اسقطوا تجارب الآخرين بالشكل والصورة والمسمى مما اضطرهم إلى اغتيال الأشباه والنظائر في حضارتهم. وملاحقة الغرب في تجاربه وتحولاته المستجيبة لحاجته تفويت للفرص وحرمان للأمة من قدرات أبنائها المستنزفة في سبيل الملاحقة لكل عارض غير ممطر والمتابع للمشاهد الأدبية في الوطن العربي يدرك انها في ضجة من أجل الغير والمناكفات والعداوات كلها حول مستجد الآخر، وليس هي حول مبادرات الذات، وعلى الذين يتشابه البقر عليهم ان يصيخوا لهذا اللغط، ليعرفوا حجم النزيف المجاني حول مصطلحات لم تستقر مفاهيمها، ولم تتقن اجراءاتها. |
[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة] |