القى معالي الدكتور سيد عطا الله مهاجراني مساء امس وضمن جلسات «ندوة الاسلام وحوار الحضارات» التي تعقد في مكتبة الملك عبدالعزيز العامة بالرياض، محاضرة بعنوان «التسامح في الاسلام» تحدث معاليه في البداية حول مفهوم التسامح قائلاً:
إن ما ينبغي التأكيد عليه هنا هو ان الشريعة السمحة السهلة هي شريعة الحياة بالاساس، شريعة الحياة الطيبة، ومن يبتعد عنها كما يقول الله في كتابه الحكيم يبتعد عملياً عن فطرته، ومن يبتعد عن الفطرة ستكون له معيشة ضنكة وشاقة.
بعبارة اخرى فإن مقولة التسامح والتساهل القرآنية تنصرف الى الحياة، فيما تنصرف النظرية المخالفة لها وهي نظرية التشدد والعنف الى الموت حتى وإن ظنوا بانهم يذعون الى الآخرة، نعم ليس هناك من شك بأن هناك اياماً في حياة الشعوب والامم مطلوب فيها من الناس ان يضحوا بأرواحهم واجسادهم دفاعاً عن حريتهم وكرامتهم وايمانهم كما يقوم المجاهدون الفلسطينيون اليوم في مقاومة الاحتلال والعدوان، لكن القاعدة ليست استهداف القضاء على الحياة والتضحية بها في كل الاحوال إن روحية الاستشهاد في ظروف المواجهة مطلوبة ومطلوبة جداً لكننا لا نقبلها ان تتحول الى نظرية للموت ومن اجل الموت فقط، ذلك لان الله سبحانه وتعالى خلق الانسان للحياة اولاً وليس للموت،وحتى الموت انما خلقه من اجل حياة اخرى.
ونحن ندرس مقولة التسامح في الاسلام لابدلنا ان نسأل عن المنهج الذي اتبعه الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في تبليغ دعوته وكيف كانت سيرته صلى الله عليه وسلم وآله وسلم مع الناس بمختلف طبقاتهم؟ وكيف كان يتعامل مع المعارضين مثلاً؟ هل كان ينبذ اصحاب الفكر والرأي الآخر ويزج بهم في السجون؟! هل كان يكفرهم ويفسقهم لمجرد اختلافهم في الرأي معه؟! بعبارة اخرى، ما مدى انسجام ما يقوم به البعض اليوم من دعاة التشدد وطرد الآخرين، ومن على المنابر او من خلال وسائل الاعلام الاخرى، مع منهج الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم؟
ان هناك محطتين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم توضحان بجلاء بأن تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس كان قائماً على اساس المودة والرحمة، الاولى تعامله مع المسلمين بعد الهزيمة في معركة احد، والثانية تعامله مع المشركين بعد فتح مكة، فبقدر ما كان مكلفاً بأداء الفرائض فإنه كان مكلفاً بالتسامح مع الناس والتعامل معهم برفق ايضاً.
قال تعالى: {فّبٌمّا رّحًمّةُ مٌَنّ پلَّهٌ لٌنتّ لّهٍمً ولّوً كٍنتّ فّظَْا غّلٌيظّ پًقّلًبٌ لانفّضٍَوا مٌنً حّوًلٌكّ فّاعًفٍ عّنًهٍمً واسًتّغًفٌرً لّهٍمً وشّاوٌرًهٍمً فٌي الأّمًرٌ فّإذّا عّزّمًتّ فّتّوّكَّلً عّلّى پلَّهٌ إنَّ پلَّهّ يٍحٌبٍَ پًمٍتّوّكٌَلٌينّ} [آل عمران: 159] .
وقد نزلت الآية بعد معركة احد كما هو معروف، وكما يروي ابو حاتم بشأن هذه الآية عن الحسن قوله: بانهاتصف خلق النبي صلى الله عليه وسلم.
والقصة المعروفة هي ان النبي صلى الله عليه وسلم قرر الخروج من المدينة لملاقات المشركين بعد التشاور مع المسلمين في الوقت الذي كان رأيه هو البقاء في المدينة وانتظار المشركين، ومع ذلك فقد نزل عليه الصلاة والسلام عند رأي غالبية القوم مما ادى الى ان يمنى الجمع بالهزيمة بعد ان غادر جماعة منهم مواقعهم طمعاً في الغنائم، هو الامر الذي ادى الى استشهاد حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم وجرحه عليه السلام.. ومع ذلك كله امره الله ان يتسامح مع الناس، وعندما عز على اصحابه الأمر وقالوا له العنهم يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم«اني لم ابعث لعاناً ولكنني بعثت داعياً ورحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون».
وروى الخليفة عمر رضي الله عنه انه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم ان نوحاً دعا على قومه وقال: {رَّبٌَ لا تّذّرً عّلّى الأّرًضٌ مٌنّ پًكّافٌرٌينّ دّيَّارْا} [نوح: 26] فادع انت ايضاً عليهم بمثل ما دعا فإنهم داسوا ظهرك، وجرحوا وجهك وكسروا اسنانك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:« اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
وكذلك فمن المعروف انه عندما اشار بعض الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم بقتل عبدالله بن ابي، فقد امتنع صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: «لا، لئلا يتحدث ان محمداً يقتل اصحابه». وحتى عندما طلب ابن عبدالله الى النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجيزه كي يقتل اباه، رفض صلى الله عليه وسلم ولم يسمح له بذلك.
واما ذروة حلم النبي وتسامحه صلى الله عليه وسلم فقد تجلى في واقعة فتح مكة، وهي الواقعة التي ينبغي دراستها والتأمل فيها عميقاً ودراسته اسلوب تعامله عليه السلام مع المشركين، كيما يمكننا تقييم افعالنا واقوالنا في ضوء سلوك النبي واخلاقه صلى الله عليه وسلم.
فعندما التقى ابو سفيان النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «ويحك يا ابا سفيان الم يأت لك ان تعلم ان لا إله إلا الله».
فقال ابو سفيان: ما أحلمك واصبرك.
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ان سعد بن عبادة، وكان حامل راية المسلمين، قال حين دخول مكة: «اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة» فأمر رسول صلى الله عليه وسلم بأن تؤخذ منه الراية وتعطى لعلي رضي الله عنه وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم عند باب الكعبة واخذ يقرأ لا اله الا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الاحزاب وحده» ثم قال ما مفاده:
(يا أهل قريش، لقد اذهب الله عنكم غرور الجاهلية وتفاخركم باسلافكم الذين كنتم تعظمونهم، والناس كلهم من آدم وقد خلق الله آدم من تراب، ثم اضاف:« يا اهل قريش ماذا تظنون اني فاعل بكم؟
قالوا: اخ كريم وابن اخ كريم!
قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء)
وهكذا اقيمت مراسم البيعة وتقاطر الرجال والنساء يبايعونه كل على انفراد ومن بين من بايعن من النساء هند آكلة كبد حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم فعرفها النبي صلى الله عليه وسلم وسألها انت هند بنت عتبة؟ قالت: اجل اصفح عما سلف رحمك الله فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم الا ان عاملها بالعفو والمداراة.
وبقية القصة المعروف عندما جعل من يدخل بيت ابي سفيان فهو آمن.
وكذلك تعامله مع قاتل عمه حمزة المعروف بوحشي حيث هرب من مكة فدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم للعودة اليها واعطاه الامان بل والبقاء مشركاً ان اراد كما جاء في قول موفد النبي اليه بأمر منه صلى الله عليه وسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم (ارجع وعش بين اهلك في مدينتك مكة ولا شأن لنا بك وان شئت ان تبقى مشركاً فلك ذلك).
يتضح من المثالين السابقين ان القاعدة في السيرة والدعوة والتبليغ هي التسامح والتساهل، واما العقاب والجزاء فهو استثناء إذلو كانت القاعدة هي العقاب والجزاء لكان يفترض ان يقتل النبي أبا سفيان وهنداً ووحشياً وآخرين. ولم يكن في ذلك اي صعوبة، بل وهو يمكن تبريره بلغة اليوم بالطريقة الثورية!
من جهة اخرى، فإن اية دراسة متأنية ومعمقة للاحكام القرآنية التي نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم وبشكل تدريجي على قرابة ثلاث وعشرين سنة تؤكد بأن الله سبحانه وتعالى ما اراد لدينه الخاتم الا ان يكون دين الحياة وشريعة العيش الكريم. وان تعليماته سبحانه لم تكن تعليمات واوامر عسكرية صارمة، بل انها مرشد علمي يتصل بقلبه وفوائده في عيشة سهلة وحياة سمحة كالسمك في الماء لا كالطير في القفص.
|