(1)
* * نتمنَّى، وفي التمنِّي شقاءٌ
وننادي يا ليت كانوا وكُنّا
«ونغنِّي» في سرِّنا للأماني
والأماني في الجهْرِ يضحكن منَّا
ميخائيل نعيمة
* * *
* * لو انتصرت إسرائيل في كل الحروب على العرب فلا بقاء لها في هذه المنطقة، لا حياة لها.. سوف تتمزق من الداخل...
آرنولد توينبي
* * *
* * إن أصابعي حفظت وجهك عن ظهر قلب
آهٍ لو كان قلبك في أصابعي أيضاً..
جان كوكتو
* * *
(2)
* * احكِ الحقيقةَ
وانس صاحبها
وقل «الهوى» ما شاءه «قيسُ»..
رام «التوحدَ» وارتضاه مدىً
ومضى، وأشرق بعده «اليأسُ»..
جاء الأحبةُ بعد طول نوى
فأشار «عنترةٌ» هنا «عَبْسُ»..
تاريخنا ما سامَهُ وتَرٌ
غنى غوىً فتخاذل البأسُ
تاريخُنا ما لاكه بشرٌ
مسحَ الذُّيول فعافه الرأسُ
تاريخُنا لم يروِه قمرٌ
أحلامُه التطبيلُ والكأسُ
ما ضلَّ من ظنَّ الحياةَ لُغىً
كلماتُها الإيمان والقوسُ..
(3)
* * يأخذ مصطلحُ «القيادةِ» أبعاداً متنوعة «تُشير» بقدر ما «تُوهم»، و«تدلُّ» مثلما «تُضِل»، ويبدو «المقُودون» مأسورين بشخصيّة القائد «الكاريزميَّة»، أكثر منهم بعطائهِ «الواقعي»..!
* * لا أحدَ يُجادل في تفرُّد شخصية «هتلر»، أو «ماو» أو «ستالين» أو «موسوليني» أو حتى «دايان»، و«شارون»، و«صَدَّام» وغيرهم، ولكن الحكم «لهم»، أو «عليهم» مرتهنٌ بما خَلَّفوه بعدهم (ولا بُدَّ من التأكيد «هنا» على «البَعْديَّة») من آثار «معويَّة» أو «ضديَّة» لشعوبهم..!
* * ولا أحد سيختلف على أن منطق القراءةِ «الموضوعيّة» سيؤجِّل وضع «الخطوط» تحت «الكلمات»، أو «الفواصل» بين «الجُمل»، أو «النقاط» فوق «الحروف»، ولكلِّ منها غاية إلى حين «رحيلهم» أو ارتحال «تأثيرهم»..!
* * ولعلَّ هذه «المقدمة» ستضعنا في مواجهةٍ مبكرةٍ مع «الخاتمة»، فلا معنى «لتأريخٍ» يُكتب ضمن سياقٍ «مجتمعيِّ» يشترط «التلقى» لما «يُقَرَّر»، و«الكتابة» لما «يُملى»، وسوف تظلُّ «هذه» «الأمالي» مجرد محاولاتٍ خداجٍ لتجاوز «فلسفة» التاريخ، و«مواصفاته»، و«ثوابته»..!
* * وإذْ تزول «المؤثِّرات» سيبدو تاريخٌ جديد قد «يختلف» كثيراً أو قليلاً تبعاً لمدى «القرب» أو «البُعد» من «الحقائق» كما ودعَتْها الذاكرةُ «الشفهيَّة» أو «التحريريَّة» غير الرسميَّة..!
* * *
(4)
* * أحياناً نخطئ حين نتصوّر «التاريخ» منتجاً «سياسياً» فقط، فهو كذلك، وهو أيضاً منتجٌ «إداريٌّ» و«ثقافيٌّ» و«اجتماعيٌّ»، وربما كان أمهرُ صانعيه هم «الغائبين» عن المواجهة، أو «المهمَّشين» ضمن «السابلة»..!
* * ولعلَّ من إشكالاتنا «المنهجيَّة» أننا «نَدْرُسُ» ثم نُدِّرس «التأريخ» على أنه «سيرُ»، «الزعماء» و«الفاتحين»، ونعرف منذ الطفولة حركات وسكنات «المشاهير»، ثم نجهل «بيئاتهم» بما فيها ومن فيها مِمَّن تدخلوا في الضوء أو في الظل في تكوين «حياةٍ» «تأذنُ» أو «تتحدى» أو «تحفز» وجودهم، ونموَّهم ثم انتشارهم..!
* * وربما لو درسنا «التأريخ» بمثل منطق «ابن خلدون»، وفلسفة «هيغل»، وعقد «روسو» لاستطعنا صوغَ عقولٍ قادرةٍ على «الفهمِ» أكثر من اكتفائها بحفظ مولد هذا ونشأة هذا، وبطولات هذا، ووفاة هؤلاء، على «التمييز»، والسعي الجاد لخلق «مناخٍ» ايجابيِّ «لإنجاب العظماء، وتشريف التأريخ..!
* * *
(5)
* * حين قال «هيغل» إن «بومة مينرفا» التي ترمزُ إلى «الحكمة» لا تبدو إلا عند «الغسق» فإنه قد أطلَّ باستشرافه المنهجي على الواقع كما نعيشه اليوم، «ظلاماً» موحياً بدلجة «الظلم» تفرضه «المدنيّة» الزاهية شكلاً فيستنسر «البُغاث» ويعثو «الجلاّد»، وتمزق «الضحيَّة»..!
* * ومَنْ يشأ كتابة «التأريخ» اليوم كما يوحي به جبروت «شارون» و«قارون» فإنه سيؤرخ لمعاني «القوة»، ومفاهيم «النَّصر»، ومن ينتظر الغد، أو يفلسف «السيادة» و«القيادة» فسوف يرى «ضعف» القوة، و«هزيمة» النصر!
* * *
(6)
* * قبل قريبٍ من نصف قرن ألّف «الدكتور قسطنطين زريق» كتابه الأشهر «نحن والتاريخ»، وأشار فيه إلى رأي المفكر الروسي «نقولا براديف» في أن عهود النكبات على مرِّ التاريخ الإنساني كانت دائماً حافزةً إلى التفكير في الماضي والمصير، ومثيرةً للاهتمام في تفسير التاريخ وتعليله..!
* * وضرب مثلاً بما شهده (أغسطينوس) من معاصرته نكبةً من أعظم النكبات وهي تداعي العالم القديم وسقوط روما، فوضع أول مذهب شامل في تعليل التأريخ أضحى منهجاً لمن تلاه، كما أن «الثورة الفرنسيّة»، «والحروب النابليونية» أنتجت محاولات لفهم التطور التاريخي واستكناه جوهره ومعانيه..!
* * جانبٌ مما ألمح إليه «براديف» في كتابه «معنى التاريخ The Meaning of History»، ولو كان «عربيَّاً» لأضاف «انبعاث» الرسالة الإسلامية الإلهية من «ركام» الجاهلية، وانطلاقها إثر إحكام «القيود» و«السُّدود» أمامها، وخروج «عمر بن عبد العزيز» من داخل البيئة المعتمة»، و«صلاح الدين» من وسط «الذُّل» و«الظلم»، وغيرهم من أمثالها:
* ضاقتْ فلمّا استحكمت حلقاتُها
فُرِجَتْ وكنتُ أظنُّها لا تُفْرَجُ
* * وقد اختزل «زريق» ناتج هذه المعادلة «التاريخية» المهمة بقوله «ويلاحظ أن الكتاب مؤلفٌ عام 1959م»:
* «.... ونحن أبناء البلاد العربية الذين يكتنفنا هذا الاضطراب العالمُيّ الشامل كما يكتنف سوانا، والذين خبرنا في تاريخنا الحديث فوق هذا كثيراً من المآسي والنكبات، خليقون بأن نبذل جهدنا لنسبر أغوار هذا الواقع المتأزم المزدوج في مظهريه القومي والإنساني، وبأن يدفعنا هذا كله إلى إدراك أدق لأسرارنا، وسبر أعمق لأغوارنا، فنتساءل عن ماضينا الذي نندفع منه، وعن مصيرنا الذي نندفع إليه، كي نعي حقيقة هذا وذاك، ونعمل ما في استطاعتنا للتحكم بالمصير، بدلاً من أن نكون له محكومين مسيّرين..
(نحن والتاريخ/ ط الثانية 1963م / ص 21/ دار العلم للملايين)
* * زادت «النكبات» وادلهمَّت «الخطوب»، ولم ندرك أسرارنا، ولم نسبر أغوارنا، ولم نتساءل عن ماضينا أو مستقبلنا، وتُهْنا في عَصْف الحاضر فلا ندري «وجهة» أو نؤسس «توجُّهاً»..!
* * *
(7/1)
* * مهما حاولنا فلن نستطيع تجاهل تداعيات «أحداث الحادي عشر من أيلول» على مجريات العالم.. وهي أحداث تبدو من وجهة النظر الأميركية «صدمة» أو «كارثة»، «نكسة» أو «نكبة» لكنها استطاعت توافقاً مع فلسفة التاريخ تحويلها إلى مواقف إيجابية تتيح لها إعادة «ترتيب» أوراقها وأولوياتها، وتسعى إلى فرض سيطرتها المطلقة على العالم، وتقسيم «الدول» إلى محاور «خيرٍ» و«شرِّ» من منطلقات «إمبرياليّة»، «عنصريّة»، ومن ثم فإن «غزوة مانهاتن» قد تحولت أميركياً إلى «فرصةٍ» للتصدر وليس «للتقهقر»!
* * لنعترف أنهم يُجيدون قراءة التاريخ، واستغلال معطياته، فباسم مكافحة الإرهاب تخلَّصوا من سمعتهم «الآسنة» في «مستنقع» «دعم» الإرهاب بل «وتبنِّيه»، وفرض حكومات «ديكتاتوريَّة» على شعوب مسالمة، واحتلال بلادٍ عديدة فاسدة بأساليب مختلفة، والوقوف مع «الجزارين» ضد «الضحايا» ومع «الأفَّاقين» ضد «النبلاء» ومع ربيبتها عصابة يهود ضد أمة «الإسلام»..!
(7/2)
* * «حَوَّرت» أميركا حكاية «البرجين» ومبنى «البنتاغون» إلى «مغنم» لا «مغرم»، وربما قرأت منطق التأريخ فأوجدت الحدث بدءاً، أو أفادت من آثاره منتهى، وعلى أيِّ فقد بقينا في المقابل حيث نحن في سرادقات «الندب» و«اللَّطم» و«البكاء والتباكي»، و«التخاذل والتنازل»، فلم نعرف من دروس التأريخ سوى «الأمالي» تختزنها حوافظ «واهية» ويستفيدُ منها «مؤرخو المصالح»، وكتبة «المدائح» ومطبِّلو «الفواتح».
* * لم نعتن بعد باستقراء «التأريخ» فلسفةً ومنطقاً، وسوف يضاف السقوط العربي/ الإسلامي بعد «نكبة أيلول بحقِّنا» إلى «أُمليةٍ» جديدةٍ يُتهم فيها المتطرفون الإسلاميُّون الذين لن يجدوا «متأملاً» أو «مُحلِّلاً» أو «معلِّلاً»، ويكفي بحقِّهم ما قاله «سادةُ» العالم، وما ردَّده «مأسوروه» و«مكسوروه» و«مأجوروه»..!
* * *
(8)
* * من يقرأ التأريخ وما وراءه يدرك أنه يحمل لواقح تاريخٍ جديد قد يكون أجمل، وقد يكون أسوأ، وقد يكون بلا معنى..!
* * التأريخ ليس «حكاياتٍ» نردِّدها، ونتسلى بها، ونفجع أو نتوجع منها، والتأريخ ليس «نشرات اعلاميّة»، أو «مقرَّراتٍ» مدرسيّة، أو تآليف «انتفاعيّة» ارتزاقيّة، ولكنه «حقائق» تفرض «التحدِّي»، وتنتظر «الاستجابة»، كما هو «فهمٌ» يجلو «الغموض»، و«نطقٌ» يصدعُ «بالصمت»، و«إدراك» يجمعُ «التخصُّص» مع «الشمول»، و«الجرأة» مع «الصدق»، و«التحقيق»، و«التوثيق» والاستقراء.!
* * التأريخ «قضاءٌ» عادل لا يكفيه «الراوي» أو «المدَّعي العام» فيأتي «بالقضيَّة» ومعها «شهودُها» ليُدقِّق ويُحقِّق، وينفي ويُثبت، ويقدم لنا «مواقف» تستعصي على «النَقْض»، ولا تقبل «التجاهل» أو «التشكيك»..!
* التأريخ ما نصنعُه لا ما نقرؤه..!
|