هل هناك تعارض بين الحاجة إلى اللوائح والأنظمة و«التقعيد» وبين حاجة الإداري إلى مساحة من الحرية تتيح له المرونة والإبداع؟
وهل المركزية وسيلة لوضع القيود على العاملين في الميدان تمنعهم من اتخاذ القرارات التي يرونها مناسبة فيعجزون عن ذلك بسبب مركزية القرار؟
السؤال الأول مرتبط بالسؤال الثاني فالجهاز المركزي عادة هو الذي يضع اللوائح، والضوابط ثم يزود بها الميدان للتقيد بها.
وفي نفس الوقت فإن المسؤول في الميدان عندما يواجه مشكلة، ولا يتعامل معها بالطريقة المناسبة، ثم يأتيه اللوم من الجهاز المركزي فإنه يبرر طريقته بأنها تمت حسب اللوائح والأنظمة ويقول «هذا هو النظام».
هذه مقدمة أقدم بها لأتناول ما يحدث أحياناً في بعض الدول من كوارث نتيجة للإهمال البشري، والتقصير الإداري متمثلا في عدم وجود منظومة إدارية واضحة المعالم في تركيبتها القانونية والإجرائية والمحاسبية.
لقد استمعت إلى جوار جريء ومفيد وقوي ضمن ندوة تلفزيونية حول حادث قطار الموت في مصر الشقيقة وسقوط العمارة، وشدني ما طرحه بعض المشاركين من رؤى وأفكار أجد أنها صادقة وواقعية وتصلح لكثير من البلدان.
ولعلّ من أهم ما طرح أن النصوص القانونية للعمل الإداري موجودة ولكن المشكلة تكمن في التنفيذ، ومن أهم المعوقات التي تواجه التنفيذ قضية الواسطة وعدم توفر العدالة في تقديم الخدمات للمواطنين.
أما السؤال الأهم المطروح في هذا الحوار فهو مسؤولية القيادي سواء كان وزيراً أو في مستوى آخر عن وقوع الكوارث والأزمات؟
البرنامج الحواري عرض أثناء الحوار لقطات من الشارع المصري تكشف مستوى النظافة ووجود إهمال مشترك من المواطنين والمسؤولين، كما تكشف حاجة المواطن العربي بشكل عام إلى ثقافة الأمن والسلامة.
فأين تكمن مسؤولية القيادي؟
أليس من ضمن مسؤوليات القيادي وضع الرؤى المستقبلية التي تضمن التطوير ومن ثم متابعة ما يتحقق، والتغلب على المعوقات التي تحول دون تحقيق الأهداف؟
وإذا حدثت كارثة أو أزمة، فهل الخطأ الصغير الذي يرتكبه أحد الموظفين أو المواطنين يعني أن المسؤول بريء، وقام بمسؤولياته كما يجب!!
أليس القيادي هو الذي يختار معاونيه؟!
سوف استشهد هنا بتعميم ولي العهد الأخير حول المسؤولية ومصالح الناس حيث يقول «إن المسؤولية الملقاة على عاتقنا جميعا تجاه أبناء شعبنا الكريم عهد وميثاق يحتم على كل مسؤول منا صغيراً كان أم كبيراً في نطاق مسؤوليته أداء أمانته الملقاة على عاتقه، فالإهمال مدعاة لضياع الحقوق، وطريق للتذمر».
ثم يقول «وأخشى ما أخشاه على كل مسؤول في بلادنا أن يسكن ضميره إلى خصلتين يصبن قلبه بالصدأ، السلطة دون مسؤولية، والأقوال دون الأفعال».
أجد في هذه الكلمات ما يعني أن المسؤولية تشمل الجميع، وأن السلطة بدون مسؤولية تؤدي إلى أخطاء جسيمة، وقد تؤدي إلى أزمات وكوارث يصعب السيطرة عليها، أما الأقوال بدون أفعال فهي أسلوب ينكشف مع الزمن حيث صوت الحقيقة أقوى من صوت الكلمة.
إذن، المسؤولية لا تقع على عاتق الصغير فقط، وإذا كان هو الشماعة التي نعلق عليها أخطاء الكبار، فإن التقصير سوف يستمر لأن العملية الإدارية هي كل متكامل ولايمكن فصل عناصرها أو التعامل مع المستويات الإدارية بطريقة غير موضوعية، إن منظومة العمل مسؤولية الجميع بكافة المستويات الوظيفية، وليس من العدل إعفاء أحد من المسؤولية لمبرر المستوى الوظيفي، أو العلمي، أو الاجتماعي، أو غير ذلك.
أعود إلى الحوادث المؤلمة التي وقعت لإخواننا في مصر فأجد مثلما أشار المتحاورون في الندوة التي أشرنا إليها أن القضية المطروحة ليست مرتبطة فقط بحادث القطار أو العمارة مثلما حصل في مصر أو حوادث أخرى تحدث في بلدان أخرى دائما، القضية هي مدى توفر نظام إداري فعال وجريء ومبادر يقتحم المستقبل ليعالج المشكلات قبل وقوعها.
أما ثقافة الأمن والسلامة فلا يمكن توفيرها بالمواعظ المباشرة وإنما بالممارسة وبالتربية والمحاسبة.
إن المسؤولية تشترك فيها أطراف متعددة ومؤسسات اجتماعية لا تحقق أهدافها ولا يتحقق نجاحها بدون التنسيق والتكامل مع الأجهزة الأخرى، وكثير من الحوادث تقع لعدم وجود التنسيق!
أما الواسطة التي تسمح ببقاء محل كوافير في عمارة سبق أن صدر قرار بإزالتها فهذا نوع من الواسطة القاتلة.
نعود الآن إلى السؤال المطروح في بداية هذه المقالة عن اللوائح، والمرونة، وهل تؤدي الأنظمة إلى تضييق مساحة الإبداع؟
والسؤال يرتبط بالأداء الإداري، وبالموضوع الذي طرحناه للمناقشة عن التقصير الإداري والإهمال، ووقوع الأخطاء القاتلة، فليس للمسؤول في الجهاز المركزي أو في الميدان أي مبرر للجوء إلى إسقاط أخطائه على اللوائح أو على الصلاحيات، فالإدارة هي اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، وإذا كان القيادي يستخدم المركزية أسلوباً في عمله فهو إذن مسؤول عن كافة الممارسات، وإذا كان من النمط الذي يفوض الصلاحيات فهذا أيضا لا يعفيه من المسؤولية، فهو مسؤول مهما كان النمط القيادي الذي تتسم به قيادته.
وفي ثنايا هذا الحوار مداخلات تتعلق بتطوير التنظيم الإداري، ومدى ارتباط ذلك بتغيير القيادات .. حيث هناك من يرى الحاجة إلى تغيير النظم، والهياكل التنظيمية قبل تغيير الأشخاص، ولكن كيف تتغير النظم والهياكل بدون تغيير القيادات، ونحن نعلم أن القياديين هم الذين يملكون القدرة على إحداث التغيير بل هي مسؤولية تأتي في سلم أولويات المسؤوليات المناطة بهم.
وفي مناقشة هذا الموضوع «ولا نزال في حادث القطار» يرى البعض أن إبعاد المسؤول القيادي غير كاف لحل المشكلة، وهذا صحيح إذا كان الوضع سوف يستمر كما كان، وإذا كان إبعاد المسؤول فقط لامتصاص الغضب، ولا أعتقد أن هذا هو الهدف من التغيير.
تغيير المسؤول بمسؤول جديد هو خطوة أولى نحو التطوير والتغيير نحو الأفضل، ولكن هذا الوضع الأفضل لا يتحقق عادة في عالم الإدارة ما لم تحدد الأهداف بوضوح وتحدد المدد الزمنية اللازمة لتحقيق هذه الأهداف حتى تتمكن القيادة السياسية من المتابعة والتقويم والمحاسبة.
لقد علق أحد الكتاب على حادث القطار بأن قطار الإصلاح الإداري يسير إلى الخلف.
وإذا كان الأمر كذلك فإن القطار لن يتحرك إلى الأمام بدون إدارة فاعلة تحدث تغييرا شاملاً يعالج الموضوع من كافة جوانبه.
إن إدارة القطار لن تتطور ما لم يتحرك قطار الإدارة، وهذا المبدأ ينطبق على الوضع في كافة الميادين.
عالم بلا سكرتير
تكثر الطرائف والتعليقات حول عمل السكرتير والدور الذي يقوم به وأهمية هذا الدور الذي يجعله أحياناً حسب رأي الخبراء هو الذي يدير رئيسه وليس العكس ومن أطرف ما قرأت حول هذا الموضوع ما يلي:
السكرتير الجيد يعرف من هو المدير الحقيقي ولكنه يوحي لرئيسه بأنه هو ذلك المدير.
السكرتير يعد خطة السفر، وحجز المناسبات، والترتيب للاجتماعات، هو دائما يقول للرئيس أين يذهب.
السكرتيريون الجيدون يتعاملون مع كل الملفات، فيضعون كل شيء في مكانه المناسب، وأحياناً يتضمن ذلك الرئيس.
إذا أردت إنجاز أمر بسرعة فكلف به شخصاً مشغولاً، حيث سيقوم بتكليف سكرتيره بإنجازه.
يستطيع السكرتير الجيد إبراز رئيسه على أنه ذكي إلى درجة تجعل الرئيس يصدق ذلك.
لا بد أن يكون السكرتير قادراً على ممارسة الكذب الأبيض مثل «المدير في اجتماع» أو الكذب الكبير مثل «المدير مشغول».
المدير بدون سكرتير مثل السفينة بدون دفة.
في مقابل هذه الطرائف أو الآراء الحادة حول عمل السكرتير وأهمية هذا العمل نلاحظ المبالغة في وصف هذا العمل، والإقلال من أهمية الدور الذي يؤديه الرئيس بل النيل من قدراته ومواهبه، وتصويره وكأنه شخص يقوم بمهمة واحدة فقط وهي تنفيذ أوامر السكرتير.
في واقع العمل .. نجد صورة معاكسة أحياناً يقوم فيها الرئيس أو المدير بكافة الأعمال، الصغيرة والكبيرة إلى درجة أن السكرتير يتظلم ويشتكي من الفراغ، ومن انشغال الرئيس بأعمال ومهام يفترض أن لا يقوم بها، فهي تؤثر على وقت الرئيس وتضعه تحت ضغوط قوية ويومية.
هذا الرئيس ينسى دوره القيادي ويغوص في تفاصيل العمل، وفي الإجراءات والمهام الروتينية التي تجعله لا يقوم بدوره القيادي المطلوب.
يقودني الكلام السابق ومصطلح «سكرتير» إلى تذكر سكرتير الأمم المتحدة وإذا كان دوره يختلف عن موضوعنا اليوم بصورة أو بأخرى فإنه يرتبط به في جوانب معينة.
دعونا نسأل الأسئلة الآتية:
من هو رئيس سكرتير الأمم المتحدة؟.
من هو سكرتير «سكرتير» الأمم المتحدة؟
ماذا يطلق على سكرتير كوفي عنان؟
وإذا كنا تحدثنا في هذا الموضوع عن التأثير القوي للسكرتير على الرئيس، فهل ينطبق هذا الطرح على الوضع في الأمم المتحدة؟
إن أمريكا هي مدير العالم، وإن سكرتير الأمم المتحدة «الأمين» هو سكرتير المدير العام.
وحيث أن لهذا «الأمين» سكرتيراً ينظم أعماله وأوقاته وملفاته، فإن هذا السكرتير الصغير هو الذي يدير شؤون العالم!!
هذا مجرد فرضية على الورق، أما في الواقع الفعلي فإن المدير العام للعالم هو الذي يدير الأمم المتحدة، وهو الذي ينفذ القرارات قبل أن يصنعها ثم يطلب من الآخرين تأييدها قولاً وعملاً، وهذا المدير العام في واقع الأمر ليس بحاجة إلى سكرتير.
|