* تتوالى ردودُ الفعل محلياً وعربياً ودولياً حيال ما بات يُعرف الآن ب(المبادرة السعودية) التي أطلقها صاحبُ السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني قبل أقلَّ من شهر عَبْر حديثه الشهير مع الصحفي اليهودي، توماس فريدمان، على هامش زيارته للمملكة، وهو الحديث الذي كان سمو ولي العهد سيلقيه خطاباً أمام القمة العربية القادمة في بيروت، لكنه أرجأ ذلك تأثُّراً بالتصعيد الوحشي لسفَّاح القرن شارون ضد الإنسان والنبات والجماد في فلسطين!
***
* وقد شاء سمو ولي العهد أن يُفصح عن مضمون خطابه المؤجَّل للصحفي الأمريكي فريدمان، ثم أَذِنَ له بنشره في وقت لاحق، وكان ذلك إيذاناً بميلاد (المبادرة السعودية) التي قامَ لها العالمُ بأسره ولم يقْعدْ، وشُغِلَ بها من شُغِلَ بين مؤيدِّ ومعارض ومتحفِّظ وصامت صمتاً ينبئ عن شيء، ولا يقول شيئاً! والقيمة الحقيقية للمبادرة ليست في مضمونها، ولا في توقيتها فحسب، ولكن أن تُنْسَبَ إلى دولة كالمملكة طويلة الهامة والقامة، دينياً وسياسياً واقتصادياً وجغرافياً!
***
* لقد تحوَّل حديث سمو ولي العهد بين عشيَّة وضحَاها إلى قنبلة سياسية أصابت اسرائيلَ والمتعاطفين معها بالذُّهول، وسحبت البساط من تحت أرجل العديد من المزايدين والمشكِّكين والمنافقين والتابعين لهم وَمَنْ تَبِعَهم في أكثر من مكان من العالم، بما في ذلك الوطن العربي!
***
* جاءت المبادرةُ السعودية موفقةً في توقيتها، وكأنها تقول للعالم كله، إنَّه رغم فداحة الجرح العربي في فلسطين، ورغم إعصار العدوان المستمر الذي يعصف بالأرواح وما ملكت، والأرض وما حوت، فإن هناك بصيصاً من نور في نهاية نفق الظلم الذي حفره مجرمُ القرن شارونُ داخل الوجدان العربي، وإن هناك فرصة، قد تكون الأخيرة، للسلام!
***
* وجاءت المبادرةُ السعودية موجزةَ النص غزيرةَ المعنى لتقول لآل صهيون ومَنْ معهم: (أعيدُوا الأرض يَعُدْ لكم السلام» وما يسْتَصْحِبُهُ ذلك من ترتيبات أمنية وسكانية واقتصادية وجغرافية وسياسيَّة يتوِّجُها قيامُ دولة فلسطينية ذات سيادة عاصمتُها القدس!
***
* لقد كَتَبَ سموُّ الأمير عبد الله بن عبد العزيز بحديثه الشجاع الفصل الأول والأخير من كتاب (سلام الشجعان) الذي يحلم به المحبون للسلام في كل مكان، حتى في إسرائيل نفسها، فهناك شريحة عريضة من اليهود داخل إسرائيل يستنكرون دمويَّةَ شارون، ويندِّدُون بها، سرّاً وعلناً، ويحلمون بيوم تشرق فيه شمسُ السلام، لتذيبَ جليدَ الظلم والعدوان!
* وفي يقيني أن السلام الذي تحلم به إسرائيل ومن سار في ركابها لا يمكن أن يَمُرَّ عبر بوابة نيويورك ولا واشنطن، ولا حتى لندن وباريس، بل عبر بوابة الاعتراف الشجاع بالحق الفلسطيني الذي سبق ان قرَّرَتْهْ الشرعية الدولية، وهو ما أكَّدَتْهُ المبادرة السعودية الشجاعة، لتثبت للعالم كله أنَّ العربَ أمةٌ تؤمنُ بالسلام، وتعينُ عليه وتسعى اليه، رغمَ كلِّ شيء وبعد كل شيء!
* * *
* بقيت لي كلمة قصيرة حول بعض ردود الفعل التي قوبلت بها المبادرة السعودية في بعض حُجرات البيت العربي.
* فهناك مَنْ ظَنَّ عبثاً أن المملكة العربية السعودية ربما تسعى عبر هذه المبادرة نحو تسوية ثنائيَّة مع إسرائيل، وهذا قول تشهد بزوره وبُطْلانِه سيرةُ المملكة في التعامل مع القضية منذ خمسين عاماً أو تزيد والكل يعلم، من عرب وعجم، أن المملكة قصدتُ بمبادرتها خدمة الحق العربي لا خدمةَ مصلحة آحادية أو ثنائية، فليس بينها وبين إسرائيل حدود مشتركة، وليس بينهما ثأرٌ حربيٌّ كي تسعى المملكة إلى تسوية ثنائية له.
* * *
* وهناك من ظنَّ ظنَّ السَّوْءِ أنَّ المملكة قصدت بمبادرتها (تبريد) الأجواء الإعلامية الساخنة مع أمريكا، وهذا قول آخر من الزور، لأن المبادرة أرقى وأنقى من أن توظفها قيادة هذه البلاد لأغراض قصيرة الرؤية والمدى. والكلُّ يدرك الآن أن الضجة الإعلامية التي افتَعلتْها بعض قنوات الإعلام الأمريكي مؤخراً قد تراجَعَتْ وذهب زَبَدُها جُفاءً!
باختصار: لقد جاءت المبادرة السعودية لتثبت للعالم بأسره أنَّ المملكة العربية السعودية شريك حقيقي في عملية صنع السلام، بعيداً عن (غوغائية) الشِّعارات وعَبَثِيَّةِ الألفاظ المُفْرَغَة من الحُجَّة والهدف.
|