Monday 11th March,200210756العددالأثنين 27 ,ذو الحجة 1422

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

يارايارا
فنان مجلب البقر ( 2 )
عبدالله بن بخيت

تحدثنا يوم امس الأول عن مصير شادي العسيلة واليوم نستأنف الحديث.
كان والده اكثر آبائنا تسامحا ولكنه مع ذلك لم يكن يحب أن يرى ابنه مغنيا، فعندما نسمع صوته في المجبب نسارع الى جمع طفايات السجائر ونخفي العود والدنبك ونعدل جلساتنا الفوضوية. كنا نعرف أنه يعرف، فرائحة السجائر تنساب مع الدرج وتهبط مع فتحة بطن الحوي وأي إنسان يقف على الباب حتى خارج البيت سيشم رائحته تعطعط. لم يكن يحرجنا لم يصعد ويفاجئنا أبداً. كان يقف عند مدخل الدرج ويصيح بأعلى صوته: صلوا حسبي الله عليكم. كان يعرف بأننا لسنا من السرابيت المعتمدين، لم نشرب بنزينا ولم نحدث مضاربات حامية ولم نسرق من قيصيرة آل وشيقر، وليس لنا سوابق أخلاقية. كنا من الطلبة المعتدلين في المدرسة ننجح كل سنة بالدف، لا يعيبنا أننا نكره الرياضيات ونفاخت في بعض الأحيان ونحب أن نتفرج على غوار ونغازل كل صغيرة وكبيرة من ذوات الغطوة. ونشتري سجائر أبو بس بالحبة ونجول في شارع الوزير ونأكل في المطاعم ونسهر في كيلو ستة. ونتضارب من أجل الكورة ونرجو الله ان يعجل بالزمان حتى نسافر إلى البحرين وعبدان أسوة بالمناضلين الكبار من مواطنينا. اعتاد علينا واعتدنا عليه.حتى أمه كانت أمرأة طيبة تحب لابنها الخير ولا تريده أن يذهب الى مكان آخر، لا تمانع ان يجمع أصحابه في بيتها حتى يكون تحت رقابتها، فتنازلت مرغمة عن حكاية السجائر. شيء أهون من شيء.
في تلك الجمعة المشهودة، بعد أن أطمأنت إلى أن كل شيء تحت السيطرة بعثت لنا بزمزميتين متروستين شاهي أخذت أطفالها الصغار وذهبت إلى بيت اقاربها، انفردنا بالبيت بالكامل فكانت فرصة عظيمة لإقامة حفل غير مسبوق، فأرسلنا في طلب ولد مريزيق ليرأس العمليات الإبداعية وينظم الحفل ويقود الاوركسترا فلا يمكن أن يقام حفل متكامل العناصر الفنية في ظل غياب ولد مريزيق ودون قيادته الرشيدة.
ولد مريزيق هو الملحن الواعد الذي بقي واعدا حتى لحظة كتابة هذه القصة وقد بذل محبوه جهودا كبيرة ليشتهر ب«أبي عبدالعزيز». ولأن هذه الكنية كانت كبيرة عليه، سناً ومقاماً، أعاده الناس إلى لقبه الأساسي المفصل عليه رسمياً «ولد مريزيق»، وما يميزه على البشرية من سكان الرياض هو أنه الشاب الوحيد الذي يجيد العزف على الكمانة. وقد سببت هذه الميزة مشكلة جانبية لعلاقته الفنية مع شادي العسيلة، فالكمانة تقدم ألحانا حزينة تنتج الأنين بينما العود ينطوي دائما على حركة ويمكن أن يؤدي الى الرقص. أما الدنبكجي ناني وهو شاب أسمر صغير يتمتع بمستوى تعليم متدنٍ ويفتقر إلى أي طموح في هذا الاتجاه، ترك المدرسة مبكراً وتفرغ للتطبيل في أي مكان يحتاج الى خدماته، فكان حاضراً بلا دعوة حيث يرابط في بيت شادي العسيلة، شكّلا في وقت متأخر فرقة موسيقية تجوب الحارات وتتجاوز الرياض إذا لزم الأمر.
كانت حفلة مشهودة تكاملت فيها فرقة كاملة عود ودنبك وكمانة.
توالت الأغاني الجميلة لطلال مداح وفوزي محسون وأم كلثوم وسعد ابراهيم وأخيراً جاءت نجمة الأغاني وهي أغنية قديمة ل«ابو سعود الحمادي» «يابشر كل الخطر من صدود ذاك الجميل» التي غذاها ولد مريزيق بكمانته الساحرة وكأننا كنا نعيد خلق الموسيقى والنظام الجمالي في هذا العالم. لم نعد نسمع اصوات المحرجين والباعة، كما تطامنت اصوات الحيوانات المختلفة حتى البقر جيرت أصواتها للتناغم مع صوت شادي العسيلة وهو يتدفق بين خليط العود والدنبك والكمان تتخللها صفقاتنا وتعليقاتنا الطفيفة «عاشوا أهل العسيلة، عاش مروس، عاش واقف». ومن باب التقدير للضيف الكبير «ولد مريزيق» كنا نردد بين فقرة وأخرى عاشوا أهل العجلية «عاش ابو عبدالعزيز» وكان يرد على مجاملاتنا بمزيد من السحبات الخاثرة على الكمان ويشدد ذقنة على بطن الكمانة وهو يقول بهدوء ومن قلب «تبقى» و«تبقى». «ومن قال» «ومن قال». فتحول ذلك الروشن الى سفينة أحلام محملة بعشاق صغار وسط أجواء معادية، متروك مصيرها لأمواج الصدفة. تداخلت الطبيعة في بعضها لم نعد نميز بين الغناء وصراخ المحرجين وأصوات البقر.
كنت أظن ومازلت على قدر كبير من هذا الظن، أن الغناء ليس إلا إعادة تركيب السعادة والأحزان والأصوات المبعثرة في الطبيعة لتصعد الى القلب على السلم الموسيقي. فإذا كان بيت شادي العسيلة يطل على مجلب البقر، فبيت بيتهوفن كان يطل على بحيرة تمتلئ بالعصافير والبجع. وإذا أردنا الإنصاف فالعصافير والبجع هي حيوانات مثلها مثل البقر. اما الفرق بين اصوات البقر واصوات العصافير فيعود الى الذوق والتربية العاطفية.كانت الساعة الثانية ظهراً تقريباً وهو وقت الذروة في المجلب حيث دخل أقصى درجات الصراخ، وأخذ الدلالون يدفعون بالبقر والحمير والعجول في بورصة محمومة. وفجأة تناهى لسمعنا صرخة حادة هزت سفينة الصغار المبحرة نحو الحب العصي. فتبدلت اصوات المحرجين وانتقلت الى وجهة أخرى غير البيع والشراء ففرضت علينا التوقف الفوري، وتقافزنا من أماكننا وتعلقنا في النافذتين المطلتين على المجلب مباشرة. فشاهدنا الناس تتنادى وتتفازع وكأن احدهم أبلغ عن قنبلة سوف تنفجر في وسط المجلب. ومن بين الأصوات الصارخة سمعنا صوتا يردد (حدوا طريسان حدوا طريسان) ما الذي حدث؟ وما دخل الثور طريسان؟
هذا ما سوف تعرفونه إذا قرأتم يارا يوم الأربعاء القادم.

فاكس 4702164

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.comعناية مدير إدارة المعلومات
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved