تأثر فلاسفة اليونان الثلاثة: سقراط، وأفلاطون، وأرسطو ببحوث السوفسطائيين في اللغة والخطابة، وإن كان تأثرهم بها تأثراً عكسياً، لأنهم على الرغم من إفادتهم منها قد قاوموا ما تدعو إليه من المغالطة، وقد ظهر السوفسطائيون مع ظهور النثر الفني الذي تتسم الحياة في القرن السادس قبل الميلاد، وحاولوا أن يفرضوا آراءهم على جمهور الأثينيين، وتسموا باسم المعلمين، وحاولوا تعليم الحكمة، وقد تعدى أثر السوفسطائيين الخطابة الى الفلسفة نفسها، لأن الفلاسفة كانوا قد اهملوا الإنسان، فأصبحت الفلسفة تعنى بالإنسان وتعنى بالوقائع وتعنى بالأشياء التي تقع تحت حسّه وتخضع لحكمه، ومن هنا قرر السوفسطائيون مبدأ آخر هو الإنسان، والسوفسطائيون يقررون مبدأ ثالثاً هو الشك، دعوا إليه، وحملوا الفلاسفة على القول بأنه من غير الممكن أن يصل الفكر الى العالم، وأن يعرف هذا الذي يسمونه الحقيقة المتصفة بالثبات والديمومة، ليست هناك حقيقة إذن، وإنما هناك مظهرها، لذلك فالأجدر بالإنسان أن يكتفي بالفلسفة! وطاف السوفسطائيون في البلاد يعقدون المجامع للخطابة والمجالس للدرس، يعلّمون فن القول وفن الحوار والجدل. وكان «سقراط» كالسوفسطائيين يرى أن الإنسان هو كل شيء وهو صاحب الكلمة المأثورة «اعرف نفسك»، وإن اختلف معهم في صفات من يحمل لقب إنسان، وسقراط هو الذي علم الجدل أو فن الحوار وكانت طريقته في التعليم أسئلة يلقيها وينتظر جوابها ويناقشها، وهي الطريقة التي سماها «توليد الأفكار» وبهذه الطريقة ضغط على كثير من أفكار السوفسطائيين وجعلهم يلزمون أنفسهم الحجة حسبما يشعرون بما في أدلتهم من نقص في التحديد أو خروج. ثم شُغل «أفلاطون» بعد سقراط بالرد على السوفسطائيين في محاورة «جورجياس» ثم في محاورة «بروتاجوراس».
ومهما كان الرأي في السوفسطائيين، فإن أثرهم كان كبيراً في ترقية الخطابة، كما أن تحللهم من القيود العلمية والخُلقية جعل من الخطابة فناً قائماً بذاته، كان من أكبر مظاهره الدفاع عن الفكرة والدفاع عن مقابلها. وقد اهتم «أرسطو» بتعقبهم وتزييف آرائهم وتقويم معوجها، ولهم ألف كتاب «المنطق» ليصحح الفكرة وكتاب «الخطابة» ليخضع فنهم الطليق لقواعد عامة، وعلى الرغم من تسفيهه لهم، إلا أنه لم يستطع إلا أن يقرر بعض ما قرروا في مسائل الخطابة.
وكما تعاقب فلاسفة اليونان الثلاثة: سقراط وأفلاطون وأرسطو على إدحاض حجج السوفسطائيين وهدم فلسفتهم، فقد تعاقبوا على إقامة «النقد اليوناني» المعتمد على التحليل والتدقيق، ومع أن سقراط لم يخط حرفاً واحداً في النقد إلا أن آراءه كلها قد انتهت الى تلميذه أفلاطون، فصاغها في محاوراته الفنية، وقد عالج في هذه المحاورات كثيراً من جوانب النقد التي عالجها بعد تلميذه أرسطو، وكان لكل منهما فلسفته الخاصة، لأفلاطون نظرية في المحاكاة، وله فلسفته في الجمال وفي الغاية الاجتماعية والخلقية للشعر، وفي أسس الخطابة الفنية، وفي الإشادة بالعاطفة، وفي النظر إلى الإلهام لدى الشعراء، ولأرسطو فكرة في النقد، وله في المحاكاة فهم جديد سما فيه بمكانة الشعر، ونظريته في الصنعة الشعرية تختلف عن نظرية أفلاطون في الإلهام، وقد وقف في كتابه «فن الشعر» عند الأسس الفنية للشعر الموضوعي، شعر الملاحم والتراجيديا والكوميديا، وجعل وظيفتها الاجتماعية رهينة بإتقان نواحيها الفنية، وله في كتاب «الخطاب» نظرات دقيقة في الصياغة الفنية والأسلوب، وقد أثر أفلاطون كما يشير المؤلف في الآراء الفلسفية التي عرض لها مؤرخو الحياة العاطفية من العرب، كابن أبي داود في كتابه «الزهرة» كما أثر في إدراك الجمال وفلسفته لدى كتاب الصوفية وشعرائهم، وبفضل أفلاطون سما النقد العذري والنقد الصوفي إلى قيم إنسانية ومعانٍ فلسفية كانت صورة صادقة لأدب العرب العاطفي والفلسفي. وأثر أرسطو كذلك في الآراء النقدية لدى نقاد العرب، رغم قصورهم كما يزعم المؤلف عن فهم فلسفته النقدية واستيعابها وبخاصة نظرياته العامة في الشعر وفي المحاكاة وفي الوحدة العضوية وفي التطهير. ويؤكد المؤلف أنه: «لولا تأثر نقاد العرب بنقد أفلاطون وأرسطو، وحرصهم على الإفادة من جهدهما وجهد غيرهما من فلاسفة اليونان لظل النقد عندهم نقداً ذاتياً تأثرياً، ولم يعتمد على الشرح والتعليل في حكمه على الإنتاج الأدبي.
من الكتاب:
لم يكن النقد العربي القديم ليستطيع أن يتقدم ويخلق شيئاً جديداً أو أن يبتكر شيئاً ذا قيمة، لو لم يُحط بتراث اليونان، والذين يلهجون بأصالة النقد العربي القديم دون ان يحاولوا الالتفات الى تأثره بالنقد اليوناني، إنما يتكلفون التضليل، لأنهم يغفلون جانباً علمياً من أهم الجوانب التي يعنى بها كل من يتصدى لدراسة النقد وقضاياه دراسة علمية، وهو جانب التأثر والتأثير في الآداب المختلفة، كما أنهم بعد ذلك يقررون أن حركة الترجمة الى العربية قد اتسعت في العصر العباسي، وأن الثقافة العربية قد تأثرت بالثقافات الأجنبية، إذاً فهذا تسليم بتأثر النقد العربي بالنقد اليوناني وبالفلسفة اليونانية!.. وقد أفاد نقاد العرب من كتابي أرسطو «فن الشعر» و «الخطابة» واعتمدوا على كتاب «الخطابة» في دراستهم للأسلوب الأدبي وخصائصه الفنية».
تناول المؤلف في كتابه هذا «النقد العربي القديم ونقاده الذين تأثروا بالنقد اليوناني» وذلك عبر ثلاثة أبواب رئيسية وعدة فصول، استعرض فيها: الفلسفة اليونانية في ترجمتها وتلخيصاتها، والتي تشمل الفلسفة اليونانية، وكتاب «فن الشعر» لأرسطو بين التعريف به وترجمته، أوجه الاتفاق والاختلاف بين النقدين العربي واليوناني، ومدى استجابة الأدب العربي لمطالب المجتمع الحضارية والثقافية، مستعرضاً نشأة كل منهما، ومصدر الشعر عند العرب واليونان، الطريق التي رسمها النقد اليوناني للنقد العربي، وتشمل استعراض قضايا النقد العربي التي تأثرت بالنقد اليوناني، وتلك التي وقف النقد العربي قاصراً دونها.
|